مقالات وآراء

سواطير السلفية بين البالوش وغنّام .. تراجيديا سوريّة قاسية

“ليتني أستطيع أن أقسو على من يقسون علي ، ليس لأنتقم منهم و لكن كي أعرّفهم فقط كم هي مؤلمة قسوتهم”.. الطالب اللبناني الأصل حسين غنّام.

بين حسين وخضر وجورج وبيار وسلطان من جهة، وبين عمار البالوش من جهة أُخرى، حكاية شراكة في الوطن تعثّرت فجأة منذ أيام بما تقتضيه “الحرية” المصنّعة في الخارج، وبما يتناسب مع “حرية” القتل والتكفير التي أصابت بعض السوريين بسُعارها.

بتاريخ 28/ 12/ 2011، وعندما أزفت ساعة الامتحان، دخل القاتل إلى المدرّج قبل عشر دقائق من بدء توزيع أوراق الامتحان، فحفظ أماكن جلوس زملائه، ثم مضى خارجاً ليعود لاحقاً عند انشغال زملائه بالإجابة على الأسئلة، حاملاً بيده مسدّسه فبدأ بإطلاق النار على جورج أولاً ليصيبه في صدره، ثم رصاصة في رأس خضر ترديه قتيلاً وتخرج من رأسه لتحرق وجه جورج مجدداً.

وبحسب رواية أصدقاء القاتل وضحاياه، فقد كان نصيب الصديق “الطيب” حسين غنّام بعد جلسة الخبز والملح السابقة، أربع رصاصات في القلب، ليتابع القاتل إطلاق رصاصة على بيار اللحام، الذي كان يحاول الهرب، ما تسبب في استقرار الرصاصة في حوضه دون إمكانية إخراجها ولتستمر حراجة وضعه الصحي حتى اليوم.

ويكمل أحد الطلاب رواية تفاصيل الجريمة: كان آخر الطلاب الذين تم استهدافهم سلطان، الذي حاول تخليص المسدّس من يد القاتل فنال حصته رصاصة في بطنه، ما أعجزه عن الإمساك بالبالوش الذي خرج من الكلية واستقل سيارة انتظرته في الخارج للاطمئنان إلى إتمام مهمته ب “نجاح”. جريمة بدم بارد… هو التوصيف السليم لما قام به عمار البالوش، ما يجعل شخصيته عصيّة على الفهم مبهمة إلى حد ما، في مقابل شخصيات واضحة لزملائه المستهدفين.

فبتحليل بسيط لصفحة حسين غنام على “الفيس بوك”، تبدو المساحة كافية لملاحظة البياض الشديد في شخصية الشاب. فهو عاشق رومانسي وصديق وحيد، ومن خلال الأخذ والرد في التعليقات تبدو شخصيته محبوبة وقريبة من الآخر. إحدى أهم الصفحات المشارك فيها “معاً ضد الطائفية في العالم”.. وقبل أيام من إطلاق النار عليه، كتب العبارة الأخيرة التي تنطوي على كثير من الألم الآتي: “أشعر بالوحدة تسكن قلبي. أشعر بالحزن غيم على نفسي. أشعر بأني غريب في مكان غريب، فيا ربي عجل موعدي”.

غنّام شاب لبناني الأصل، يدرس الهندسة الطبية في جامعة دمشق، بعيد عن السياسة بشكل تام، فكل ما تداوله على صفحته الخاصة عبارة عن حِكم وشِعر وأقوال مأثورة، ويعبّر ببساطة متناهية عن طبيعة شخصيته. وبالمقارنة بين القاتل والضحية، يمكن ملاحظة أن القاتل عمّار البالوش، الشاب الرنكوسي، من خط سياسي معارض للسلطة بوضوح، ومتأثر بالوضع “الثوري” إلى حد انتظاره وفد المراقبين العرب لإنقاذ السوريين (ربما ما فعله كان بهدف استقبال لائق بهم مثلاً). ومعظم الصفحات التي يشارك بها عبر “الفيس بوك” من نمط  “أنا مسلم وأفتخر.. وأخي المسلم، أختي المسلمة”.

ولا يمكن إغفال طريقة التخاطب بين الشابّين. فغنّام يخاطب قاتله ب “حبيبي عمار” و “عمارو”، وهو الصديق شبه الوحيد من بين جميع طلاب الكلية، حيث يبدو التعاطي مع الشاب الانطوائي صعباً بحكم شخصيته المتزمتة. كما أنه يتعاطى الشأن السياسي من منظور مُعارضٍ غير سلمي يستمد أوامره من رجل الدين.

وقد سجّل له، في رمضان الماضي، أنه استفتى الداعية المصري محمد حسّان عبر “الفيس بوك” في جواز الاقتصاص من شخص لديه أخ متورط في قتل إخوان له، وهي فتوى تم تبرير الجريمة على أساسها من قبل “الثوريين” على اعتبار أن المقصود هو الطالب خضر خازم- الذي قتله عمّار بلا رحمة- والذي لابد أن له شقيقاً متورطاً في قتل إخوة للبالوش، إلا إن ما لا يعلمه هؤلاء أن خضر لا أخوة ذكوراً له. شراكة حسين غنّام وعمار البالوش في الوطن لم تتعثّر أبداً من بين الجميع حتى لحظة القتل.

ف “البطل” البالوش- بعُرف مناصري “الثورة السورية”- قد تناول الغداء في اليوم السابق لجريمته في منزل صديقه الكائن في المخيم شارع الثلاثين ، ثم اتّفق معه على أن يجلس في مقعد قريب منه يوم الامتحان لإمكانية مساعدته، بحكم أن غنّام طالب متفوق على الجميع، ومن عادة عمّار أن يستعين بكراسات محاضراته.

ويذكر أحد أصدقاء خضر أن الشبّان المستهدفين كانت تجمعهم بالقاتل علاقة طيبة، وأقربهم إليه كان حسين غنام، إلا إنهم جميعاً يتميزون بأنهم من طوائف أخرى وهم شخصيات محبوبة وغير متزمتة بعكس القاتل الذي كان مغموراً في الكلية. ويصف عدد من أصدقاء حسين الجريمة بكثير من الأسى والدموع غير مصدقين ما جرى، سائلين عن السبب الذي استوجب كل هذا الحقد والتعطش إلى القتل بين أصدقاء المقعد الدراسي.

في حين أن أنصار “الثورة” زادوا في تبريراتهم أن خازم عضو في الهيئة الإدارية لاتحاد الطلبة، معتبرين أنه “شبيح” ويستحق ما جرى له، ليبقى تساؤل أصدقاء القاتل والضحية معاً: هل الاختلاف في وجهة النظر السياسية يتطلّب تصفية جسدية بين طلاب جامعيين؟. وهل هكذا يكون الدفاع عن النفس، وبهذه الطريقة ينتقم “الثائر السوري” لأهله في رنكوس بعد مداهمة القوى الأمنية لبعض البؤر هناك كما زعم البعض! أو لعل غنّام ورفاقه هم من “شبيحة” الاتحاد الوطني لطلبة سورية المشهورين بمضايقة البالوش حتى تم طرده من الجامعة بحسب إحدى الشائعات!!..

وأية تبريرات أُخرى من الممكن أن تخرج من الهبوط العقلي للثورات الحالية التي تشرّع استباحة حُرمة الجامعات وتبرّر تصفية طلاب العلم! ثم ألم تنتهِ جرعات القبح التي يصوّرها لنا البعض على أنها سبيل إلى دولة يزعمون أنها تعددية ويعدون السوريين بها؟ دولة شعارها: “إن اختلفتَ معي في الرأي أطلق النار عليك”!.

مرح ماشي- دمشق

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock