Site icon سيريان تلغراف

الوطن : عن “البطة العرجاء” والرهان على الوقت .. هكذا تصرف حافظ الأسد

قال السيد وزير الخارجية وليد المعلم في مقابلته الأخيرة كل ما يمكن أن يُقال، وأجاب عن التساؤلات الغامضة والمطروحة. بل إن رسائله لم تكن رسائل ديبلوماسية مبطَّنة، بل كانت رسائل مباشرة.

يقولون عن «المعلم» إنه يَزين كلامه بميزان الذهب، بل الأدق أن موازين الذهب تأخذ مُعايرتها ويتم تصفيرها قياساً لكلامه.

بالتأكيد فإن تصفير موازين الذهب هنا يختلف عن بدعة «تصفير المشاكل» التي روَّج لها رئيس الوزراء التركي «أحمد داؤود أوغلو» بُعيد تعيينه وزيراً للخارجية في مقالته في صحيفة «فورن بوليسي»، تلك السياسة التي أدت في النهاية لعزل تركيا عن أغلبية محيطها، ووضع هذا البلد على مصيرٍ يماثل الرمال المتحركة.

في ذاك المقال ذكر أوغلو يومها عبارةً مهمةً فقال: «كذلك تؤثر حقائق تركيا الديموغرافية الفريدة في رؤيتها للسياسة الخارجية، هناك بوسنيون في تركيا أكثر مما في البوسنة والهرسك، وألبان أكثر مما في كوسوفو إلى جانب إثنيات كبرى أخرى من المناطق المجاورة…».

لا نعلم إن كان أوغلو هو من كتب المقال أو قرأه، أم إنه وعلى طريقة أمراء النفط، الذين يدّعون كتابة الشعر و«الدراما التلفزيونية»، فإن هناك من كتب له هذا المقال، فلو أنه قرأ هذه العبارة لفهم جيداً أن اللعبة الديموغرافية ليست في مصلحة أحدٍ؟ فهل أن استمرار السياسة التركية في «العبث الإستراتيجي» هو بالنهاية تجسيدٌ لمقولة إن جسر العودة عن التورط قد انقطع؟! تحديداً بعد أن أكد «المعلم» صراحةً أن خيارنا الاستراتيجي هو الرد على أي عدوان تركي… لكنه- العدوان- لا يبدو أنه سيحدث.

“من لا يتمتع بذاكرةٍ في غاية القوة، فالأفضل له ألا يخاطر بالكذب”.

عبارة قد توصِّف حال كل من يطلق التصريحات والتهديدات بحق سورية حالياً. تحديداً أن حال «العبث الإستراتيجي» لا يبدو حكراً على تركيا فحسب، إنه حال العبث الذي لجأ إليه الفاشلون بالمجمل، فوزير الداخلية التركي لم يقرأ كلام النائب «محمد أديب أوغلو» عن عبور أكثر من ألف إرهابي الحدود التركية إلى سورية خلال الأسابيع الماضية، لكنه متألم لأن سقوط حلب بيد الجيش العربي السوري ستعني كارثةً في ملف اللاجئين. أما فرانسوا هولاند فكرر تحذيره من سقوط حلب عدة مرات خلال أسبوعين وبطريقة تثير الشفقة.

كذلك الأمر يبدو الوضع في بريطانيا أشد سوءاً، فها هو «أندروغليغان» يقول في صحيفة «ديلي تليغراف» إن بريطانيا باعت نفسها لقطر، في تعليقه على زيارة أمير مشيخة قطر للندن وتوقيعه عدة اتفاقيات من بينها اتفاقيات «أمنية». أليسَ من مدعاة الفخر أن عواصم كـ«لندن وباريس» باتتا مركزاً تجارياً خليجياً بعد شراء المال الخليجي لأغلب المعالم المهمّة فيهما، على حين تبقى دمشق عصيةً على الكسر؟ هي رسالة لمن لا يزال يسخّف الصراع ويراه من منظور صراع على الكرسي- لا علاقة له به-.

هذا الضياع والتخبط يثبت أن هؤلاء بمجملهم عبارة عن صور كرتونية هامشية، هم تماماً كلاعبي الاحتياط الذين يدخلون أرض الملعب في فترة الاستراحة بين الشوطين يتقاذفون الكرات أملاً في دورٍ قادمٍ لهم ويخرجون طواعيةً مع دخول اللاعبين الأساسيين أرض الميدان لأن مسار اللعبة لا توقفه أحلام الواهمين، فماذا عن اللاعبين الأساسيين؟

في الولايات المتحدة، عاد سيناريو «الصوت المعاقِب» ليتكرر، لكن هذه المرة يستهدف الديمقراطيين لا الجمهوريين. يبدو وكأنه سيناريو مكرر عما حدث في العامين الأخيرين من ولاية «جورج بوش» الثانية. هناك من يعتبر أن السياسة الخارجية والحروب هي السبب، لكنّ الأمر لا يبدو مقنعاً، فالعقاب في الانتخابات الأميركية متعلق بالوضع الداخلي، والمكترثون في الولايات المتحدة للسياسات الخارجية لتحديد توجهاتهم الانتخابية لا يبدون بذاك التأثير الكبير، فهل نظن مثلاً أن المجيء بالجمهوريين هو لوضع حد لإجرام الديمقراطيين؟ بل على العكس، ربما سئم الأميركيون من حروب الديمقراطيين «الناعمة» ويريدونها على الطريقة «البوشية» حرباً مباشرة، فهل يمكن أن يحدث ذلك؟

إذاً، عاقبَ الأميركيون الحزب الديمُقراطي ومعهم باراك أوباما، الرئيس الذي يتجه بهدوءٍ ليحمل لقب «البطة العرجاء». لعل هذا الحدث يدعم وبقوة ما قلناه منذ أسبوعين بأنه لا إمكانية للتوصل إلى اتفاق بين الروس والإدارة الأميركية الحالية، ففي السياق ذاته، رفض الروس المشاركة في إعداد قمة عام 2016 الخاصة بحماية المنشآت النووية.

بات همّ باراك أوباما الآن كيف ينقذ سمعة الحزب الديمُقراطي قبل الدخول في المعمعة الرئاسية، تحديداً أن تواصل الفشل في إستراتيجية محاربة داعش تزيد من أزماته والسبب واضح منذ البداية، لأن الولايات المتحدة تجاهلت أنها تنظر بعيون حلفائها الداعمين للإرهاب. وعليه لم يكتفِ أوباما بطلب زيادة تمويل الحرب على داعش، باعتباره بات في سباقٍ مع الوقت قبل رحيل الكونغرس الحالي، لكنه بعث برسالةٍ لمرشد الثورة الإسلامية في إيران، السيد «علي الخامنئي»، يطلب فيها التعاون في محاربة داعش.

يبدو لافتاً أن الرسالة وُجهت للسيد الخامنئي وليس للرئيس الإيراني، وهذا يتقاطع بشكلٍ غير مباشر مع ما قاله «المعلم» في معرض حديثه عن التحالف السوري الإيراني (أيُّ مساس بهذا التحالف في إيران غير مقبول من الإمام الخامنئي ونهجه). إذاً الملفات المتشابكة في المنطقة ليست موضع جدل لدى القيادة الإيرانية، فهل وصلت الرسالة؟
يبدو أن الرسائل التي وصلت كثيرةٌ.

في كل مناحي الحياة فإن الحرب خدعة، في المعارك السياسية- كما العسكرية- فإن التضليل فنٌ. منذ العام 2009 وحديث بيع روسيا لسورية وإيران منظومة صواريخ «إس 300» المضادة للطيران لا يغيب عن الإعلام المعادي، والتساؤل تحديداً هل حصلت سورية على هذه المنظومة أم لا؟

دائماً ما يقع المعتدون بأخطاءٍ تجعلهم يكشفون جهلهم وتخبطهم، في تموز 2013 جرى الحديث عن تدمير «إسرائيل» لما سموه موقع في الساحل السوري، هو مركز لصواريخ الياخونت «مبنى بسيط مُغطى بالصفيح المهترئ.. لتخزين الياخونت!»، علماً أن الإعلام المعادي أكد تدميرها، لأنه لا يريد أن يظهر بمظهر المضلّل استخباراتياً.

اليوم، على أجهزة الاستخبارات «الإسرائيلية» ونظيرتها الأميركية- التي انتظرت فيما يبدو رداً سوريا بصواريخ «إس 300» عند أول غارة على داعش- أن تتمعن جيداً بما قاله وليد المعلم بأننا «لم نحصل على صواريخ «إس 300»، فشركات السلاح الروسية تعمل وفق بيروقراطية بطيئة»، وأن تدرسه بإحكام وتطرح سؤالاً مهماً: لماذا تعمل البيروقراطية الروسية ببطء، أم إنه فن التضليل الذي لا يتقنه إلا من يتم تصفير موازين الذهب قياساً لكلامه؟

تبقى المعضلة الأهم، وهي ملف المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني.

هذا الملف يبدو أنه بشكلٍ أو بآخر يفتح المجال للتفاهم بين القوى المتعارضة بينها حول آلية تدمير سورية.

يجلسون وحيدين يتابعون بشغف ما ستسفر عنه المباحثات النووية بين إيران والولايات المتحدة. يدرك الأتراك وبعض مشيخات النفط و«إسرائيل» تماماً أن التراجع الأميركي يجب ألا يعني تقدماً لحلف المقاومة حتى لو اضطروا لوضع خلافاتهم جانباً. فبعد مسرحية تخفيض أسعار النفط عليهم التشويش في المنطقة انطلاقاً من الساحة المشتعلة أساساً وهي سورية، لأنهم ببساطة يراهنون على الزمن، تحديداً أن الجمهوريين عائدون وبقوةٍ وهم يتملكون سجلاً أسوأ من سجلات الديمقراطيين في الحروب والقتل. من ثم حتى نظرية أوباما بالاعتماد على المعارضة المعتدلة ستسقط مستقبلاً، لأن هناك من بات في مصلحته تعويم المتطرفين فقط بغض النظر عن البديل. هذا ما يفسر لنا قيام ما يسمى «حركة حزم» ـ بتوجيه من الدولة الداعمة لها وهي الإمارات- والفصائل الإرهابية المتعاونة معها بتسليم مقراتها وهروبها أمام ضربات جبهة النصرة في ريف إدلب، لأن هناك من يريد أن يصوِّب حتى على كذبة أوباما بالاعتماد على ما يسميه «المعارضة المعتدلة»، بعد أن بات تعويم التطرف «قد» يُكسب أكثر.

إذاً قد يبدو الأمر ترحيلاً للمواجهةِ وليس انتفاء حدوثها. لكن إن كانوا يراهنون على الوقت كل حسب طموحاته، فعليهم أن يتذكروا يوماً أن الاجتماع الأخير للراحل حافظ الأسد كان مع بيل كلينتون في جنيف في أيار 2000. يومها ظنّ كلينتون من منظوره بأن الأسد سيقابله تحت «ضغط الوقت» وسيمرر له عبارة «انسحاب من حدود متفق عليها»، لكنّ الأسد تعامل من منظور أن الوقت «لا يزال طويلاً»، وأخبر كلينتون أن العرض لا يعنيه. أسلم الأسد الروح بعد أقل من شهرٍ على هذا الاجتماع، فهل سيتعظ المراهنون على الوقتِ ماذا يعني في عرف السياسة السورية عبارة «ثوابت» عندما يتعاملون مع الأيام وكأنها «وقت طويل»؟

سيريان تلغراف | الوطن

Exit mobile version