مقالات وآراء

تدمر بين حراب داعش والرومان

قد يتحول التاريخ بصروحه وأحداثه الكبرى إلى شاهد على عصور تليه. وهذا ما حدث لتدمر، الواحة الصغيرة التي أتقنت لغة الكبرياء، وواجهت في سبيل ذلك روما، ولم تستسلم حتى الرمق الأخير.

تحولت هذه المدينة بتاريخها الوضاء إلى شاهد على القسوة والخراب، وتعرضت أطلالها التي صمدت في وجه الزمن دهرا إلى معاول الهدم من جديد. معاول أرادت لها كما روما أن تركع.

لوحة-فنية-للملكة-زنوبيا

لا يعرف الغزاة الجدد لغة الحضارة، فلم تنبس تدمر أمامهم ببنت شفة. ظلت صروحها تقف في أنفة أمام فظاظتهم وخشونتهم وجهلهم المريع، تنتظر نهاية هؤلاء الطارئين وزوال خطاهم التي دنست تربتها المخضبة بالعرق والدم وبالكبرياء. ولم يتأخر ذلك اليوم وعادت الحرية إلى مملكة زنوبيا وتاج مجدها، عادت النسائم تهفو على الصروح التليدة في معزوفة الخلود.

تلك المعزوفة بدأت في قديم الزمن. منذ ما قبل التاريخ بدأ دبيب الحياة يُسمع في ربوع تدمر، الواحة التي عرفت كيف تلون أيامها بالفرح وتغازل المجد بالعرق والأغنيات. في كنفها وجد المسافرون والغرباء والتائهون الراحة والأمان، واتسعت وازدهرت وشُيدت بها الطرقات وارتفعت الصروح، وتفنن الإنسان في زخرفة الوجود، وفي مغالبة الصحراء والعيش بكرامة على الرغم من ضيق المكان وشح الموارد والرمال السافية.

ارتبط مجد تدمر بالحسناء زنوبيا، الملكة التي علمت أهلها لغة المحبة والكبرياء والعنفوان، فكان المجد تاجا خالدا على رأس المدينة لا يزال يلمع إلى يومنا.

كانت زنوبيا، زوجة الملك أذينة الذي لجأ إليه الرومان عام 260 طالبين مساعدته ضد الملك الفارسي شابور الذي وصلت جحافله إلى أسوار تدمر وأسرت الإمبراطور الروماني فاليريان ثم أعدمته.

حارب أذينة جيوش الفرس التي سحقت الرومان، وتمكن من دحرهم وطردهم من المنطقة، وكانت زنوبيا تقف إلى جانبه، تسعى جيئة وذهابا بين الجنود تؤازرهم بأناشيد الكبرياء.

وبذلك سطع نجم تدمر ومليكها أذينة، إلا أن الحلف مع الرومان لم يدم طويلا، فقد بات نفوذ أذينة المتعاظم خطرا يهدد الرومان، فما كان منهم إلا استدراجه واغتياله غدرا مع نجله الأكبر عام 266.

بعده، حملت زنوبيا اللواء وأثبتت أنها تجيد فعلا لغة الكبرياء، وأنها أكثر من سيدة حسناء قادتها الصدفة إلى أن تكون على رأس تدمر. رصت الصفوف خلفها، وتحالفت مع أقوام من الشرق، ثم أرسلت الجيوش للقصاص من الرومان.

وفاجأت حنكة الحسناء زنوبيا ورباطة جأشها الأعداء والأصدقاء، وتمكنت جيوشها من غزو مناطق آسيا الصغرى ووصلت إلى الاسكندرية بمصر، وبحلول عام 269 توسعت مملكتها وامتدت من مصر جنوبا، إلى مضيق البسفور شمالا.

شعرت روما إثر ذلك بالخطر، فجمع إمبراطورها أورليان الجيوش، واشترى ذمم حلفاء زنوبيا وأرسل إليها يطلب منها الاستسلام، وكان الرفض ردها.

إلا أن الظروف كانت ضد تدمر فقد استنزفت مواردها، ولم تكن قادرة على حرب طويلة الأمد، فدارت الدوائر عليها، واجتاح الرومان المدينة بعد حصارها، وأسروا زنوبيا وكبلوها بسلاسل من ذهب، ثم سيقت إلى روما وقد فقدت تاجها، لكن لم يستطع أحد أن ينزع عنها كبرياءها، فعاشت في الأسر مرفوعة الرأس حتى وفاتها.

ومع ذلك لم تخضع تدمر تماما للرومان، وما لبثت أن تمردت على غزاتها وتمكنت من استعادة حريتها، وجلس على عرشها أنطيخوس والد زنوبيا، إلا أن الإمبراطور الروماني أورليان عاد من جديد وغزا المدينة ودمر أسوارها، وأعمل السيف في أهاليها وجعلها أطلالا خاوية، وفعل كل ما بوسعه كي لا تنهض مرة أخرى.

سيريان تلغراف | محمد الطاهر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock