مقالات وآراء

برنار ليفي يرث أعمدة الحكمة السبعة !

من قال إن التاريخ لا يعيد نفسه؟ يعيد نفسه إذا توفرت ظروف مشابهة إلى حد بعيد، ربما هذا ما دفع الفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي إلى السير خلف لورانس العرب ومحاكاته.

تبدو سيرة ليفي، الفيلسوف والصحفي والكاتب، في دور “عرّاب الثورات العربية” كما لو أنها استعادة معاصرة لسيرة من لُقب بـ”ملك العرب غير المتوج” لورانس العرب، ضابط الاستخبارات البريطاني الذي أسهم في تأجيج “الثورة العربية الكبرى” في المشرق ضد العثمانيين في عشرينيات القرن الماضي.

وبطبيعة الحال، أحداث التاريخ مهما تشابهت فهي لن تكون البتة مثل اسطوانة مشروخة أو فيلما مكررا، ولذلك حظينا بلورانس عربي عصري جديد، لا يجيد التخفي ولا يحتاج إليه، ويظهر ببدلة عصرية وبقميص ناصع البياض بياقة مفتوحة، ومن دون عُقد أو تكلف يؤدي دور لورانس هذه المرة على الهواء مباشرة.

برنار-ليفي

محظوظ هذا المغامر الجديد في أرض العرب، فهو لم يتكلف عناء التطواف في الصحاري على ظهور الجمال ومخالطة البدو والعيش في مضاربهم وبين ظهرانيهم لسنوات، واتقان لغتهم وعاداتهم والتكيف مع عالمهم بظروفه الاستثنائية القاسية، والترحال لرسم خرائط أراضيهم المترامية الأطراف، وتوحيدهم وحشدهم للانقضاض على الخصوم.

لورانس الجديد لم يؤد دورا طويلا على مسرح بامتداد الصحراء مثل سلفه، ولم يكن جنديا في جيش غريب، لقد تصرف بطريقة أخرى وجاء إلى البلاد التي استهوته مثل سائح في مهمة كبرى، ومن خلف الكواليس جلس مع أصحاب القرار في الإليزيه وفعل كل ما بوسعه لإشعال المعركة أكثر، ودفع فرنسا إلى الانغماس في الأزمة الليبية جوا وبرا حتى الإطاحة بالنظام السابق.

 ليفي هو الآخر أحب “العرب” الذين ناصر قسما منهم ضد قسم آخر، وأعجبته مخالطتهم، والاتصال بهم. أُغرم بهم إلى درجة أنه لم يكتف بإقناع سلطات بلاده بتسليحهم وتدريبهم وحمايتهم، بل وكتب لزعمائهم الجدد خطبهم وكلماتهم الحماسية بكل طيبة خاطر.

وعلى الرغم من اختلاف الزمان والمكان، إلا أن ليفي قدّر من تحمّس لقضيتهم وأسهم بقسط وافر في تحويل “انتفاضتهم” إلى حرب ضارية استمرت نحو 7 أشهر، ووصفهم بأنهم “أشخاص طيبون يحملون نفس القيم التي نحملها”. ومثله فعل ملك العرب غير المتوج لورانس في كتابه “أعمدة الحكمة السبعة” حين قال “إن العربي حين يصدق بك ويؤمن برسالتك، فهو سيتبعك إلى أقاصي الدنيا ولو بذل في ذلك حياته”.

نجح الرجلان فيما اضمراه كل حسب طريقته الخاصة، فحشدا القبائل ودغدغا العواطف الملتهبة وضبطا الانفعالات وأغدقا الوعود البراقة، وسارا بالناس إلى حيث أرادا، وهنا أضاف لورانس العصري، الفيلسوف والصحفي المحنك نكهة جديدة من النرجسية الفريدة على هذا النوع من المغامرة.

ظهر ذلك في سرده المسهب لمآثره ولحركاته وسكناته في سبيل ربيع ليبيا، والذي وثقه بكل الأشكال الممكنة، في كتب وفي برامج وثائقية ومقالات ومقابلات صحفية وتلفزيونية.

ومن ذلك أنه أعلن في إحدى المقابلات التلفزيونية أنه خطب أمام 30 ألف مواطن ليبي في ساحة ببنغازي، وقال لهم بكل صراحة ووضوح : “أنا لست سفيرا لساركوزي ولست ساركوزيا! .. أنا فرنسي ويهودي وصهيوني. أنتم تمثلون قبائل وأنا ممثل ومبعوث قبيلتي”، وأضاف في نشوة غامرة “حينها صفقت لي الجموع وحيوني وصفقوا للفكرة”.

ولم يدخل الفيلسوف الفرنسي، صاحب رواية “الشيطان الذي في رأسي” إلى هذه المعمعة ويقود إيقاع معزوفتها الصاخبة صدفة، لقد استعد لمثل هذا الدور بالتطبيل لعمليات الناتو العنيفة ضد يوغسلافيا عام 1999، وحاول لاحقا أن يدق طبول الحرب الدولية في سوريا، لكنه تاه بليبيا وأعاد “هندستها” مع الناتو، ثم ملأه الزهو بمغامرته التي تمكن من خلالها من استعادة مجد لورانس من دون تنكر أو تورية وبأقل جهد، فأعلن أنه مدّ “يد العون لحركات التحرّر في بنغلاديش وجنوب السودان وأفغانستان والبوسنة وليبيا”، مضيفا أنه الآن يمد يده مجددا بالربيع إلى سوريا وإلى أوكرانيا.

وهكذا أصبح هذا الرجل صانعا للتاريخ ونجح في مهمته، ليس فقط بفضل قدرته على الإقناع ومظهره العصري وتقاليد “قبيلته” العريقة، بل أيضا لأنه وجد أشخاصا طيبين، مثل أولئك الذين خبر عجينتهم لورانس، إذا عرفتَ كيف تجعلهم يؤمنون بك سيتبعونك إلى حيث تريد وسيضحون بحياتهم من أجلك، هذا كل ما في الأمر.

سيريان تلغراف | محمد الطاهر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock