الصحف العربية

السفير : هذا ما وجده في دمشق.. عنان «هز رأسه» بعد أن اصطدم بالسيادة السورية

نشرت صحيفة السفير تحقيقا لكاتبها سامي كليب تحدث فيه عما دار في لقاء الرئيس الأسد مع المبعوث الدولي كوفي عنان، وتضمن التحقيق:

ذهب المبعوث الدولي كوفي عنان إلى دمشق ليأخذ تعهداً جديداً من الرئيس السوري بشار الأسد يساعده في مهمته، فخرج بنتيجة مفادها أن الرئيس بشار الأسد متمسك أكثر من أي وقت مضى بـ«السيادة الوطنية»، وعازم على المضي في المعركة العسكرية حتى القضاء على آخر مسلح ما لم يسلم سلاحه، وأن لا تفاوض ولا حوار سوى مع «الذين يملكون عقلا»، لا أولئك الحاملين السلاح.

كان عنان قد وصل إلى دمشق على سجادة دولية حمراء. العالم كله يدين مجزرة الحولة. مجلس اسطنبول يطالب بتنفيذ البند السابع. دول الخليج تتنادى لعقد اجتماع بغية اتخاذ إجراءات أقسى. اعتقد المبعوث الدولي مرة أخرى انه سيجد الرئيس السوري أضعف من السابق وبانتظار خشبة الخلاص. خاب ظنه. هذا بالضبط ما جعله يقول خلال اللقاء ثم بعده إن مجزرة الحولة «قد تغير مجرى الأحداث في سوريا». وما أن انتهى اللقاء حتى كانت العواصم الغربية قد باشرت بطرد السفراء السوريين عندها.

لا تتعاطى سوريا مع عنان على أنه مبعوث دولي وعربي، فهي نزعت عنه أي تكليف عربي. تخاطبه وسائل إعلامها على أنه «مبعوث دولي» فقط. ينظر الرئيس الأسد إلى الدول الأخرى وخصوصا الإقليمية منها، وتحديداً التركية والقطرية وبعض الأجنحة السعودية (وليس الملك) على أنها تمارس دوراً انتهازياً.

سمع كوفي عنان شيئاً من هذا القبيل خلال اللقاء، وسمع أيضاً أن المطلوب من المبعوث الدولي الضغط على بعض الدول الإقليمية التي تسلح وتدفع أموالاً، وأن يبحث عن الحل السياسي في سوريا وعلى المستوى الدولي وليس مع الدول الإقليمية.

ثمة توازن دقيق في هذه اللعبة الدولية يصل حالياً إلى ذروته حيال الأزمة السورية. تلوح مؤشرات اتفاق بين واشنطن وموسكو على عدم التدخل العسكري. رضخت الإدارة الأميركية للمشيئة الروسية في هذا المجال. قال المتحدث باسم البيت الأبيض جاي كارني إن واشنطن لا تعتقد بأن التدخل العسكري في سوريا أمر صائب في الوقت الحالي، لأنه سيؤدي إلى مزيد من الفوضى والمذابح. كلام دقيق جداً، وأما ما أضيف إليه من أن واشنطن لا تستبعد أي خيار بما في ذلك العسكري، فهذا فقط للديكور، يشبه تماماً ديكور ما قاله الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند من عدم استبعاد التدخل العسكري شرط أن يتم ذلك عبر قرار من مجلس الأمن. الأساس بالنسبة لواشنطن ولفرنسا الاشتراكية هو الحل السياسي.

تدرك واشنطن وباريس أن الروس والصينيين لن يقبلوا بتدخل عسكري مهما حصل. مجزرة الحولة مفصلية بالنسبة لعنان والغرب، بينما هي بالنسبة لموسكو وبكين تفصيل في الخيار الاستراتيجي الأكبر. وعند السلطات السورية أصلاً ملفها الخاص عن المجزرة، ويبدو انه سيحمل عدداً من المفاجآت.

لم يكن مفاجئاً، إذاً، أن تصدر الخارجية الروسية أمس بياناً رسمياً تؤكد فيه أن «موسكو لن تسمح لمجلس الأمن بالتفويض لتدخل عسكري في سوريا»، ثم تتبعها الخارجية الصينية بعد دقائق لتقول إنها تكرر معارضتها للتدخل العسكري في الأزمة السورية.

هذه واحدة من مآسي المعارضات السوريات المستمرة على تشتتها. ثمة معارضة ترفض التدخل العسكري منذ البداية وتحمِّل «مجلس اسطنبول» مسؤولية التورط فيها (منها مثلا هيئة التنسيق)، وثمة معارضة أخرى، وفي مقدمها المجلس نفسه، تبدي يأساً شديداً من احتمالات التدخل العسكري ويصل الأمر بقادة المجلس للقول إنهم سيقاتلون على نحو منفرد، طالما تخلى العالم عن دعم المسلحين والسلاح. وهذا ما يفسر إعلان المجلس الانسحاب من خطة عنان.

الرئيس الأسد قوي كفاية ليقول لكوفي عنان في خلال اللقاء: «نحن نقبل الحوار مع من يملك عقلاً، أما من يحمل السلاح ويمارس الإرهاب فلا حوار ولا هوادة معه». لعله قال أيضاً إن «الجيش وقوى الأمن سيقتلون كل من يمارس الإرهاب»، لأن من «واجب الدول حماية مواطنيها».

ذهب كوفي عنان إلى دمشق يسأل الرئيس الأسد عما فعله لتطبيق خطة المبعوث الدولي وخصوصاً لجهة وقف العنف، فسأله الرئيس «ماذا فعلت أنت أولاً لوقف العنف، فخطتك تقضي بوقف الإرهاب ووقف العنف وسحب المسلحين، ولكن الإرهاب ازداد والسلاح كثر».

جرى نقاش مستفيض حول آليات عمل كوفي عنان. يعيب السوريون على البعوث الدولي أن خطته خالية من «آليات التنفيذ»، يقول الرئيس لكوفي عنان : «إن الدول الغربية تسارع إلى فرض عقوبات وإصدار مواقف ومضاعفة الضغوط علينا حين تظن بأننا لم نلتزم بأحد بنود الخطة، ولكن ما هي آلياتك للضغط على الآخرين، أي على المسلحين والإرهابيين».

ثم هناك مشكلة أخرى استعرضها الرئيس أمام ضيفه والوفد المرافق: لا يمكن تجزئة خطة عنان، فهي سلة واحدة، فكيف إذاً تستمر الضغوط لإطلاق سراح كافة المعتقلين ولا يحصل أي شيء لوقف السلاح والمسلحين. شرح الرئيس لعنان أن مئات المعتقلين الذين أطلق سراحهم، هم معروفون من قبل الشارع السوري وفي جوار أماكن سكنهم، فكيف ستكون ردة فعل هذا الشارع لو استمر إطلاق سراح الآخرين ولم يتحقق أي شيء آخر من الخطة الدولية لوقف السلاح والإرهابيين.

ثم ماذا يعني أن يأتي عنان فقط إلى سوريا، ولا يذهب إلى دول جاهرت في إعلان دعمها للسلاح والمسلحين، أو أنها تدعمهم في وضح النهار، من تركيا إلى قطر وبعض الأطراف السعودية والخليجية. صحيح أن سوريا لا تتعامل مع هذه الدول الإقليمية على أنها صاحبة تأثير كبير في المعادلات السياسية الكبرى، ولكنها تعتبر أن دورها الأمني يجب أن يتوقف إذا ما أريد لخطة عنان أن تنجح.

كان عنان يستمع، وفي بعض المرات يهز برأسه موافقاً. يدرك هذا الديبلوماسي الغاني العريق، ابن الرابعة والسبعين عاماً، أن مهمته معقدة جداً. لقد بدا في هذا اللقاء متفهماً لجزء لا بأس به من الطروحات. هو يعرف تماما أن مهمته لم توضع إلا لحفظ ماء الوجه، والدول المؤثرة قد تستجيب لدعواته المتكررة. شرح أكثر من مرة للسوريين بأنه اتصل بأكثر من دولة من تلك التي لها تأثير على السلاح والمسلحين، ولكن النتيجة لا تزال شبه معدومة.

كرر كوفي عنان أكثر من مرة ضرورة وقف العنف وتطبيق الجانب الأمني من المبادرة الدولية، فكان الجواب إن «الدولة تقوم بواجبها لحماية مواطنيها، وإنها ستستمر بحمايتهم، لأن هذا واجبنا، ولأن هذا الواجب يتم تطبيقه وفقاً للقانون فليتم البحث إذاً عمن يخرق القانون والدستور، وعمن يقتل ويروع ويذبح المواطنين». يبدو أن عنان أبدى تفهمه عند هذه النقطة.

الرئيس الأسد شدد في اللقاء على مسألة «السيادة». و الروس والصينيين موافقون تماماً على وجوب احترام السيادة السورية، وعلى ضرورة أن يكون الحل بين أيدي السوريين أنفسهم، حتى ولو اضطروا لمساعدة خارجية في مرحلة أولى. وكلما طرح عنان أمراً يتعلق بالوضع الأمني أو الحوار أو التسويات، كان الجواب المباشر أن بالموافقة إذا لم يتناقض الأمر مع السيادة.

منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة، صارت القيادة السورية تنظر إلى مجلس الشعب على انه الساحة الفضلى للتفاوض ولتحديد المستقبل السياسي للبلاد. وكلما اشتد الصراع المسلح على الأرض، كلما ازدادت هذه القيادة قناعة بأن سبل الحوار مع معارضة، على غرار مجلس اسطنبول، قد انعدمت تماماً. لا بل قد تكون السبل انعدمت أيضاً مع الكثير من أطراف المعارضة الخارجية، خصوصاً أن النظام يرى أن هذه المعارضة بقيت شبه صامته حيال التفجيرات الإرهابية.

الأهم هو أن عنان سمع كلاماً مباشرة وواضحاً مفاده أن من يفكر بإسقاط النظام هو واهم، وأن الدولة حازمة اليوم أكثر من أي وقت مضى، وأن المعركة مستمرة حتى إنهاء آخر مسلح ما لم يرم سلاحه، وأن على الغرب التخلي عن أوهامه.

لا يغلق الرئيس الأسد بابه للحوار. يعرف أن ثمة أطرافاً في المعارضة، خصوصاً في الداخل، وربما جزء بسيط من الخارج يمكن التوصل معه إلى قواسم مشتركة، لكنه في اللقاء قال كلاماً لكوفي عنان يفهم منه الكثير. قال: «نحن نحاور من يملك عقلاً لا من يحمل السلاح».

أمام تراجع الغرب عن فكرة أي تدخل عسكري، وبانتظار ما ستسفر عنه المفاوضات بين إيران والغرب، ثمة رهانان متناقضان ينتظران الأزمة السورية: وفي ضوء الرسالة القوية لموسكو مساء أمس. حيث قال متحدث باسم بوتين: «إن روسيا لا تنوي تغيير موقفها بشأن وضع سوريا». إذ رفع الرئيس الروسي مجدداً مستوى التحدي قبل لقائه نظيره الأميركي.بما لا يترك أمام الأزمة السورية سوى رهان يؤكد أن موسكو متمسكة بموقفها القائل إن على السوريين أنفسهم أن يحددوا مستقبل نظامهم. وقد درجت القيادة الروسية حتى الآن على الإشادة بكل الخطوات السياسية للقيادة السورية .

كل ما حصل حتى الآن من تصعيد في سوريا وجزء من التصعيد في لبنان، وتوترات سياسية في العراق، وارتفاع الحرارة في البحرين وغيرها، وبداية التقارب الجدي بين إيران والغرب، وما قد يضاف من توترات في عدد من هذه الدول لاحقاً، إنما يدور في سياق شد الحبال الدولي بانتظار صفقة معينة قد لا تحصل قبل الأسابيع الأخيرة للانتخابات الأميركية.

وفي هذا الإطار يسعى الروس والأميركيون لتبادل رسائل التهدئة. من هذه الرسائل ما كشف عنه مستشار الرئيس الروسي للشؤون الخارجية يوري أوشاكوف حيث قال إن بوتين وأوباما تعهدا بمواصلة الجهود الرامية لتحسين العلاقات الثنائية، وسيوقعان اتفاقية بشأن التعاون المستقبلي في قمة مجموعة العشرين.

هل هذا التعاون الثنائي سيشمل إيران وسوريا وغيرهما من بؤر التوتر بين الجانبين، أم يقتصر على الدرع الصاروخي؟ في مثل هذه القمم تحسم أمور كثيرة أو يحصل الخلاف الكبير. وفي حالتي الحسم أو الخلاف، لن تكون مهمة كوفي عنان أكثر من وسيلة لتمرير الوقت وحفظ ماء الوجه، ولا بد من توترات كثيرة قبل اللقاء الدولي الأكثر انتظاراً في الوقت الراهن.

السفير- سيريان تلغراف

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock