الصحف العالمية

فيروس التطرّف من سلالة ترامب!

ارغومنتي اي فاكتي

يقول لاعب شطرنج محترف عن اللعبة إنها “رياضة عدائية وعنيفة”، بل ويصف بعض اللاعبين بـ “القتلة”.

استوقفني الوصف للعبة نتخيلها “مسالمة”، يشارك فيها لاعبان أمام بيادق خشبية، على رقعة مربعة لثمان مربعات متبادلة بين اللونين الأبيض والأسود.

وهكذا تبدو كلمات الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، وتباهيه بأن الولايات المتحدة الأمريكية “لم تدخل حرباً واحدة خلال فترة حكمه”.

إننا نتعامل مع العنف والعداء حينما يخرج من حيز العقل إلى حيز الفعل، ولكن ماذا عن عنف التفكير وعدائية المنطق والفكر والسياسة والاستراتيجية؟

ألم يكن هتلر فكرة تسري كالسم في عقول البشر، قبل أن تتحول إلى أيديولوجية، وخارطة طريق تدير آلة قتل جهنمي شارك فيها ملايين البشر؟ ألم تكن مجرد “فكرة” ما دفع الشعوب أن تؤمن وتصدق وتنتج دبابات وطائرات وقنابل وصواريخ لقتل شعوب أخرى من أجل مبادئ وقضايا ظنّها البعض مصيرية؟

لم ينشأ مصطلح “الترامبية” Trumpism مصادفة، ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية أبداً بهذا القدر من العدوانية كما كانت في السنوات الأربع الماضية.

رسمياً، وعلى الورق، بالفعل لا تبدو أن هناك حروباً جديدة دخلتها البلاد خلال حكم الرئيس ترامب، هذه حقيقة.

ولكن عملياً، ما فعلته إدارة ترامب من خلال العقوبات على سوريا، على سبيل المثال لا الحصر، وتحديداً ما سمي بـ “قانون قيصر”، حمل عواقب وخيمة على الشعب السوري.

لقد وقع ملايين السوريين البسطاء في براثن الجوع والبرد والمرض، في الوقت الذي منعت فيه الولايات المتحدة أي مساعدات لسوريا، حتى الإنسانية.

يؤدي نقص الغذاء والوقود والدواء إلى الموت البطيء المؤلم للشعب السوري، في الوقت الذي ترفع فيه الولايات المتحدة شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، إنه حال يتكرر في عدد من البلدان العربية الأخرى. أليست تلك حرباً؟ أليس هذا عدواناً؟ بل إنه أفظع من الحرب والعدوان، إنه قتل مرعب وبطيء ومؤلم بسلاح بارد.

وكيف لنا أن نقيّم انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من المعاهدات التي تكبح جماح سباق التسلح؟ هكذا بجرة قلم، ألغى ترامب سنوات طويلة ومفاوضات شاقة ومجهودات مضنية حاولت نقل العلاقات الدولية بين الدول من المواجهة إلى التعاون.

وماذا عن اللاجئين؟ لقد عرقلت إدارة الرئيس السابق حل جميع مشاكل اللاجئين بكل طريقة ممكنة، ولم تكتف الولايات المتحدة الأمريكية بتجاهل مؤتمر اللاجئين المنعقد في دمشق بمبادرة من روسيا فحسب، بل دعت الدول الأخرى إلى مقاطعته. أن ذلك يمكن أن يسهم بشكل أو بآخر في موجة جديدة من الإرهاب الدولي.

وما لم يدركه ترامب، أو يعيه، هو أن مخيمات اللاجئين، التي أصبحت مستقراً ومقاماً لسنوات طويلة، هي تربة خصبة لنمو التطرف والإرهاب. أطفال يكبرون في ظروف قاسية، دون فرص للتعليم، ودون أمل في مستقبل مقبول، أو أي آفاق لحياة كريمة. يغيب مفهوم الوطن، بعد أن أمضوا حياتهم كاملة في أراض أجنبية أو بعيداً عن مدنهم وقراهم، فما الذي ننتظر أن يفعله هؤلاء حينما يكبرون؟ لا شك أن كثيراً منهم يمتصون الدعاية المتطرفة، ويتبنون المظلومية الدينية الأصولية، ويحملون السلاح دفاعاً لا عن الأرض وإنما عن الدين، ضد “الكفرة”، أي “كفرة” وكل “كفرة” كما يشير لهم أمير الحرب، الذي يتلقى دعمه وسلاحه من الخارج. إنه لأمر مخيف! ومن المستحيل القضاء على الإرهاب على نحو فعال، ما لم يتم اجتثاثه من أصوله.

هل يمكننا أن نطلق إذن على تلك سياسة دولة “لم تدخل حرباً”، بل هو تمام العكس، لم تكن مجرد “حرب” بل كانت “حرباً ضارية” ضد العالم.

في 6 ديسمبر 2017، اعترفت إدارة الرئيس دونالد ترامب بالقدس عاصمة إسرائيل، وذلك بعد أن كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد عارضت إعلان إسرائيل القدس عاصمة لها عام 1949، وعارضت خطة الأردن لعام 1950 لجعل القدس عاصمة ثانية، وعارضت ضم إسرائيل للقدس الشرقية بعد حرب 1967، وقدمت اقتراحاً بأن يكون مستقبل القدس موضوع تسوية تفاوضية، وهو القرار الذي حافظت عليه إدارات أمريكية متلاحقة، نظراً لأن أي إجراءات أحادية بهذا الشأن يمكن أن تضر بالمفاوضات، ثم أصدر الكونغرس عام 1995 “قانون سفارة القدس” الذي أعلن عن ضرورة “الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل”، على أن تنتقل العاصمة إلى القدس خلال خمس سنوات. إلا أن الرؤساء الأمريكيين حتى دونالد ترامب كانوا يوقعون تنازلاً لمدة ستة أشهر لتأجيل هذه الخطوة لخطورتها على عملية السلام وحل الدولتين.

وبعد رفض غالبية قادة العالم قرار ترامب الاعتراف بالقدس، عقد مجلس الأمن جلسة طارئة في 7 ديسمبر، أدان فيها 14 من أصل 15 عضواً القرار الأرعن، لكن الولايات المتحدة الأمريكية استخدمت حق النقض “الفيتو” بطبيعة الحال، لإحباط أي تحرك لصدور قرار إدانة.

كان من المنطقي أن تندلع مظاهرات في جميع أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي مختلف بلدان العالم إدانة لذلك القرار، الذي يمثل دفناً لكل المسارات التفاوضية، ولحل الدولتين، ولحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
في يناير 2020، أعلن ترامب عن “صفقة القرن” أو ما أسماه “خطة ترامب للسلام”، والتي كانت ترجمة لجهود استمرت سنوات عكف فيها صهر الرئيس، جاريد كوشنر، على وضع خطة اقتصادية، طرحها في “ورشة عمل” في العاصمة البحرينية بعنوان “السلام من أجل الازدهار”.

أبدى الفلسطينيون رفضاً تاماً وغضباً كبيراً لبنود وحيثيات الصفقة، وأعرب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، عن رفضه القاطع للخطة قائلاً: “القدس ليست للبيع، وكل حقوقنا ليست للبيع والمساومة وصفقة المؤامرة لن تمر، وسيلقي بها شعبنا في مزبلة التاريخ كما ذهبت كل مشاريع التصفية والتآمر على قضيتنا العادلة”.

كذلك جاء رفض قرار الخطة الأمريكية من جامعة الدول العربية التي عقدت اجتماعاً طارئاً في القاهرة، 1 فبراير 2020، بإجماع كل الأعضاء.

تلك كانت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية منذ أربعين عاماً، ولا زالت واشنطن تسير على نفس الدرب، خاصة مع تبوأ شخص مثل ترامب مقعد الرئيس، بينما يتشدق الجميع بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، بل ويصرح الرئيس السابق بأن “الولايات المتحدة الأمريكية لم تدخل حرباً في عهده”.

مع دخول الرئيس الأمريكي الجديد، جو بايدن، إلى البيت الأبيض، نأمل أن تكون أولى خطواته على المسرح الدولي الاجتماع مع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، في محاولة لاستعادة دور هيئة الأمم المتحدة في صون السلم والأمن الدوليين بمنع النزاعات وصنع وحفظ وبناء السلام.

سيريان تلغراف

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock