بلدنا اليوم

واقع المعارضة المسلحة في حلب وإدلب .. جسـم بلا رأس مهدّد بالغـرق في صراعـات داخلية

في الوقت الذي افتتح فيه رئيس المجلس الوطني السوري جورج صبرا عهده بطلب السلاح ثلاث مرات، وفي الوقت الذي لا ينفك بدوره رئيس الائتلاف المعارض أحمد معاذ الخطيب عن المطالبة بالدعم العسكري، يبدو أن بعض مناطق الشمال السوري، لم تعد تنظر مثل هذه الدعوات. وما يعزّز ذلك، التطورات الأخيرة التي رافقت المعارك في حلب وإدلب، إذ لم يعد المسلحون يطالبون بمنطقة عازلة أو حظر جوي أو تدخل مباشر، بعد أن تمكنوا من تحقيق ذلك وسط فوضى عسكرية عارمة تجتاح حلب، تقابلها حالة من شبه انضباط مسيطرة في إدلب وريف اللاذقية. أما المناطق الكردية، فما زالت حساباتها مؤجلة بانتظار اتفاق غير محسوم بين المقاتلين والأحزاب الكردية.

وفي المحصلة، يصبح هناك تجمع من الكتائب المقاتلة يطلق عليها اصطلاحاً «الجيش الحر»، لكنها أشبه بجسم بلا رأس وهيكلية مفقودة واتصالات مع الخارج قبل الداخل، تتجاوز في بعض الأحيان حتى القيادات الشكلية التي تعددت وتوزعت بين الحدود التركية والداخل من دون أن يكون لها أي سلطة.

أما الأبرز فهو وجود خليط يبدو للوهلة الأولى متجانساً، ولكن التعمق فيه يكشف عن تناقضات حادة تختلف بين إسلامي معتدل وإسلامي سلفي محلي وسلفي جهادي خارجي، ما يفتح الباب على صراع بدأت تلوح ملامحه في الأفق بين المجموعات ذاتها التي ينظر إليها الخارج كجسم واحد.

خريطة التوزع العسكري

قد يعتقد البعض أن المناطق الشمالية في البلاد تتقاسمها الكتائب المقاتلة بشكل تسيطر فيه كل كتيبة على منطقة، إلا أن الأمر ليس بهذا الشكل، إذ يمكن تمييز حضور أكثر من مجموعة مقاتلة في منطقة واحدة، تعمل على تحقيق أهداف مختلفة في العديد من الأحيان. على سبيل المثال، قد تقوم إحدى الكتائب مثلاً بعملية تجذب إليها عدسات الصحافة بغرض الاستعراض الإعلامي، فيما تتولى أخرى مهمة حماية المنطقة «المحرّرة». وعلى الرغم من ذلك، يشهد ريف إدلب تمركزاً للمجموعات السلفية، وخاصة على مقربة من الحدود التركية، وتمتد هذه المجموعات إلى شمال اللاذقية وإن بعدد أقل. مع العلم أن معظم مقاتلي إدلب هم أبناء الريف نفسه، ويحظون إجمالا باحتضان اجتماعي واسع. أما في اللاذقية فهم خليط من مختلف القرى والبلدات الساحلية وحتى من باقي المدن السورية، بينما من هم في ريف حلب فمن كتائب تشكلت من قلب المناطق الريفية وعمدت إلى تدعيم نفسها بنفسها، بشرياً ومالياً، مستغلة أواصر العائلة الواحدة والتكاتف الاجتماعي الموجودة في الريف إجمالا.

وهنا أيضا لا يبدو التزمت الديني واضحاً، إذ باتت معظم هذه الكتائب تتمتع بعلاقات ممتازة مع كتائب المدينة التي تشكلت بدورها في الغالب من مقاتلين من الريف الحلبي بالمقام الأول يليهم مقاتلون من ريف إدلب وحماه وحمص.

في المقابل، وفي ظلّ الانضباط الذي تشهده إدلب، تعيش حلب فوضى عارمة يعزوها البعض إلى الحقد القائم على المدينة بسبب تأخرها بالالتحاق بركب الثورة، بينما يعزوها آخرون إلى مساحة حلب الكبيرة ونشوء عصابات تضم مجرمين يدّعون أنهم تحت راية «الجيش الحر». ما سبق تسبّب، بحسب رواية ناشطين في مدينة سيف الدولة، بخروج تظاهرات في بعض المناطق طالبت صراحة بخروج «الجيش الحر» من أراضيها والتوقف عن الاستهتار بحياة المدنيين وضبط حالات القتل والخطف والإعدامات.

أما القادمون من الخارج، فيصنفهم الناشطون إلى صنفين: الأول يضم ذوي الأصل السوري الذين قرروا إنهاء حياة الاغتراب والعودة للقتال في الداخل وهؤلاء عددهم كبير، لكنه يذوب بسرعة في الحياة العسكرية للمقاتلين، والثاني يضم العرب القادمين للقتال، وهم قلة للغاية ومعظمهم يتجهون لمصلحة المجموعات السلفية أو «جبهة النصرة».

في المقابل، وبينما تعلن بعض الكتائب التنسيق التكاتف مع بعضها البعض، تبدو مجموعات أخرى مغردة خارج السرب حتى بعد تشكيل مجالس عسكرية ومجالس ثورية وقيادات عسكرية، إذ ادعت أنها قادرة على توحيد فصائل المعارضة المسلحة، ويأتي في طليعة هؤلاء السلفيون. فمثلاً، على الرغم من إعلان «كتائب أحرار الشام» أنها تنسق مع قيادات «الجيش الحر»، يؤكد مقربون من الطرفين أن الكتائب تتصرف وكأنها الوحيدة على الأرض في القتال، وهو ما ينسحب بدوره على «جبهة النصرة». وحتى على صعيد التنسيق الداخلي، تشير الغالبية الساحقة من الناشطين في حلب وإدلب وريف اللاذقية صراحة إلى أن هذه الكتائب تتخذ قرارها بمفردها أو بالاتفاق مع بعضها البعض إذا كان هناك نوع من الاتصال. وعليه تبدو القيادات العسكرية من المجلس العسكري أو القيادة المشتركة وحتى قائد «الجيش الحر» رياض الأسعد في واد، والكتائب في واد آخر. هكذا رفضت معظم الكتائب الالتزام بالهدنة التي طرحها المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي، ويعود ذلك بحسب مقربين من الكتائب إلى اعتبارات تتعلق بطبيعة أرض المعركة، فيما يشير آخرون إلى أن توزيع الرواتب على المقاتلين حصل لمرة واحدة وانتهى، وقد مضت عدة أشهر لم يتلق هؤلاء ليرة واحدة، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أن هناك فصائل قد نجحت بتنظيم نفسها مالياً. ويعلق على ذلك ناشط مقرب من الجيش الحر بقوله: لم تقدم القيادات العسكرية شيئاً في الواقع، فاعتمد القادة على أنفسهم وعلاقاتهم بالخارج لتأمين التمويل، وفي بعض الأحيان على الاستعراض الإعلامي بغية تعريف العالم بأنفسهم.

البحث عن الدعم والسلاح

تتفاوت القدرة التسليحية للكتائب بين فصيل وآخر. ويعود ذلك إلى أحد أمرين: إما قدرتها على التواصل مع الخارج، وبالتالي شراء السلاح مباشرة، وإما قدرتها على اغتنامه من عملياتها العسكرية ضد الجيش النظامي الذي لا يزال مسيطراً على العديد من المرافق الكبرى في المدن الرئيسية. ويبقى الإسلاميون السلفيون الأكثر قدرة على الحصول على تمويل شبه منتظم وكذلك معدات عسكرية ضخمة تمكنهم من القيام بعمليات كبرى، كتفجير ساحة سعد الله الجابري في قلب مدينة حلب.

ويشير مقربون منهم إلى أن الاعتماد الأساسي في الدعم يكون على شخصيات مغتربة في الخارج، تليه تجمعات مقاتلة في الخارج أيضاً وجمعيات تدعم الفكر الجهادي السلفي، أما باقي الكتائب فتتشابه إلى حد بعيد في مصادر التمويل، وبالتالي شراء السلاح، على أن بعضها يحصل في الوقت عينه على دعم محدد من دول خارجية. في مقدمة هؤلاء «لواء التوحيد» المدعوم تركياً بشكل كبير، ويعتبر أقوى المجموعات على الأرض في حلب، فيما تحظى «الفاروق» بدعم سعودي، ويميل القطريون إلى دعم مجموعات أخرى أقل عدداً.

وفي حال نقمة أحد الدول على من يمثلها لا يكون لديها مشكلة بالتحول إلى خط آخر، وهو ما يشير إليه أحد الناشطين في سياق الحديث عن البيان الصادر من مجموعة كتائب في حلب والتي ترفض فيه الاعتراف بـ«الائتلاف الوطني» وتدعو لإقامة الدولة الإسلامية. ويلفت الناشط إلى أن عدداً من الفصائل التي وقعت على البيان قامت بذلك في محاولة للتقرب من «جبهة النصرة» والاتجاه السلفي، بهدف الحصول على دعم مماثل بعد أن تقلص الدعم الخارجي الذي تحصل عليه. لكن الأمر لم يحدث، وذلك بسبب غضب الشارع على البيان ومحاولة فرض السلطة بواسطة السلاح، وبسبب مسارعة الفصائل وفي مقدمتها «لواء التوحيد» إلى التنصل من توقيعه.

وتبقى كلمة السر في عمليات التسلح هي الصواريخ المضادة للطائرات، والتي بات من المؤكد وصولها إلى قبضة المقاتلين، إما عبر عمليات شراء خفية (يؤكد ناشطون على الأرض في الشمال وتركيا أن صفقات بيع الصواريخ تتم بموافقة الاستخبارات التركية والأميركية التي منعتها في الأشهر السابقة)، وإما باغتنامها من القواعد العسكرية وكتائب الدفاع الجوي. وعلى الرغم من امتلاك المقاتلين تلك الصواريخ، ما زالت تعتبر غير كافية لإعلان الشمال منطقة محررة. فبالأمس، وصلت طائرات النظام إلى قرب الحدود التركية وقصفت مناطق حدودية ثم عادت لقواعدها، حيث أشار ناشطون هناك إلى أن الطائرات التركية اكتفت بالتحليق وتشكيل خط دخاني أبيض كإشارة حدود للمجال الجوي السوري. ولا يتوقع الكثيرون أن تفيد منظومة «الباتريوت» في خلق منطقة حظر جوي تدعم عمل مضادات الطائرات التي تصل فقط لحلب وإدلب. في هذه الأثناء، تغيب المعلومات عن الطرف الغربي، أي شمال اللاذقية، وكذلك الرقة من الجهة المقابلة، في وقت ما زال الوضع متوتراً في أقصى الشمال الشرقي أي في المناطق الكردية.

مع ذلك، قد يشهد ما سبق تحولاً في الآونة الأخيرة مع تمكن المقاتلين من السيطرة على مواقع عسكرية تابعة للنظام في الأرياف واغتنامهم أسلحة وذخائر عديدة وصلت للمرة الأولى إلى دبابات ومدفعيات، ناهيك عن إسقاط الطائرات في إدلب تحديداً. وهو ما يُتوقّع أن يزيد من قوة «الجيش الحر» في المجمل، لكنها ستكون قوة تحتسب لكتائب دون غيرها، ما يفتح الباب على صراع بدأت ملامحه تتضح بين الكتائب المقاتلة من جهة والسلفيين من جهة أخرى تحت هدف واحد: وحدة البندقية.

سيريان تلغراف | السفير

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock