مقالات وآراء

الفرق بين ميليشيا الجيش الحر وحزب العمال الكردستاني .. بقلم سومر سلطان

عام 1979 ألقى طالب كردي كلمة في اجتماع طلابي في جامعة الشرق الأوسط التقنية في “أنقرة”، ولم تعجبه ردود الفعل، فغادر القاعة هاتفاً: “يوماً ما ستسمعون بي كلكم”. بعد فترة قاد مجموعة من اثني عشر شاباً خرجوا إلى الجبال متمردين، يحملون أفكاراً رومانسية تتعلق بحقوق الشعب الكردي. اسم الطالب “عبد الله أوجلان”، وهذه هي شرارة انطلاق الانتفاضة الكردية التاسعة والثلاثين.

عام 2010 خرج الملازم “عبد الرزاق طلاس” في مهمة رسمية لفض تظاهرة، غلت الدماء في عروقه، اعتلى سيارة واعلن انضمامه لـ”الثورة”، وأصبح قائد أحد أكثر التنظيمات دموية. وقع في فضيحة جنسية مشينة، واتهم “الصين” بها.. بالنهاية احترقت ورقته وابتعد عن الأضواء.

أهمية تحديد الفوارق وأوجه الشبه بين ميليشيات الجيش الحر وميليشيات حزب العمال الكردستاني تتجلى في أنها تعطينا صورة عن العقلية المتحكمة بكل منهما، وهذا يضيء على جوانب لها علاقة بالخيارات السياسية والوطنية والإنسانية لكل منهما؛ من منهما يمثل حركة تحرر وطني بما فيها من أخطاء وتجاوزات وخلل، ومن منهما أداة تدخل أجنبي بما فيها من مطالب محقة تستخدمها مطية؟

الفرق بين ميليشيا الجيش الحر وحزب العمال الكردستاني

من بدأ أولاً:

تعتبر جملة “هو بدأ أولاً” صميم الفكر المؤسس للـ”الثورة السورية”، وعماد حراكها العسكري، وأهم مفسرات تشكيل الميليشيات العسكرية؛ فوسائل إعلام “الثورة” استعملتها لتفسير تحول المظاهرات التي كان يسوق آنذاك لسلميتها إلى عمل عسكري عبر التحدث عن اطلاق الأمن السوري النار عليها.

ولجملة “هو بدأ أولاً” استعمالات أخرى؛ فالمجازر الجماعية سببها “هو بدأ أولاً”، والاغتيالات سببها “هو بدأ أولاً”، وضرب المنشآت المدنية سببه “هو بدأ أولاً”، وأغلب الظن أنها ستستخدم لتفسير الجلوس على طاولة المفاوضات مع إدارة الرئيس “بشار الأسد”.

بالمقابل يبدو حزب العمال الكردستاني بعيداً عن متوالية الفعل ورد الفعل ورد رد الفعل ورد رد رد الفعل الذي توَّهتنا به “الثورة” في سورية. إنه بالأحرى يضع نصب عينيه مطالب يريدها بعينها، وتتعلق بالحقوق القومية للشعب الكردي الذي لا زال هدف حملات تتريك عنيفة منذ تأسيس الجمهورية التركية. ومسألة “من بدأ أولاً” هي مسألة هامشية قد تستخدم إعلامياً في بعض المناوشات بين العائلات الموالية له والأخرى الموالية للنظام الأردوغاني.

طبيعة الخطاب:

إن أحصينا كل من يظهر على الشاشات ممن يجتمعون، ويعقدون المؤتمرات، ويدلون بالتصاريح، ويشكلون اللجان، ويلتقون بالدبلوماسيين الأجانب، ويوجهون الانذارات الأخيرة للنظام السوري.. كلهم كلهم قد يبلغ عددهم ألف شخص أو خمسة آلاف شخص. خمسة آلاف شخص يستخدمون حتى آخر رجل الخطاب الليبرالي وليس بينهم من يستطيع استغناءً عنه. خمسة آلاف قائد “ثوري” ليس فيهم من يوجد في مخزونه مفردات تنتقد النظام إلا من الزاوية الليبرالية المتعلقة بالحقوق الفردية، وهي مهمة، ولكنها لا تعوض عن معالجة القضايا التي تمس حياة المواطن؛ أين مصالح الفقراء، أين الدراسات الخاصة بهيكلة عمل النقابات المهنية، أين انتقاد بدعة “اقتصاد السوق الاجتماعي” التي اعتمدتها حكومة “العطري”، وطالما أن المرصد السوري لحقوق الإنسان في بريطانيا يمتلك هذه الأعين النفاذة كلها فلم لا ينشأ على مثاله مرصد لانتهاكات حقوق الشغيلة، أين ورشات العمل الخاصة بالفشل الإداري، وهو من المواضيع المحرم عليهم الخوض فيها بالمناسبة ومعالجته أولى من الفساد الإداري، بل إن معالجة الفشل هي الطريق لمكافحة الفساد. وقد نسمع انتقادات تتعلق بالفساد، وهي انتقادات لها نصيب ما من الصحة، ولكن لماذا لا يوضع اقتراح لهيكلة مؤسسة هامة هي مؤسسة الرقابة والتفتيش بدلاً عن الاستهداف الشخصي؟

تخيلوا أن نطلب إلى “برهان غليون” رأيه في مشاكل عمال الشركات العامة للبناء مثلاً، أو رأي “ميشيل كيلو” في الوحدات الإرشادية، أو رأي “معاذ الخطيب” في تقييم أسلوب “الإدارة بالأهداف” الذي اعتمدته سورية فترة ليست بالقصيرة. ليست الفكرة أنهم يجهلونها فحسب، وأن خطابهم الليبرالي المبني على عبارات الحقوق الفردية لا يمتلك الإجابة على هذه الأسئلة، بل إنهم لن يقدموا إجابات خالية من أسماء أقارب الرئيس السوري.

لدى الحركة الكردية خطاب أكثر تنوعاً بكثير، وهي قامت بدراسات كثيرة كونت على إثرها تصوراً واضحاً عن فكرة “الحكم الذاتي”، و”الكونفدرالية”، وحتى عن تفاصيل تتعلق بالنظام الضريبي والعلاقة المالية بين الدولة المركزية والإقليم الكردي؛ وعن مسائل مثل الأمن المحلي، والسياسة الخارجية، ووضع الأقليات غير الكردية في المناطق الكردية، وتفاصيل وتفرعات كثيرة. وذلك بعد أن تمت دراسة تجارب مشابهة كإقليم “برشلونة” في “إسبانيا”، و”موناكو” في “فرنسا”، والإقليم الكردي في شمال “العراق” بشكل خاص. إضافةً إلى أعمال كثيرة تبدأ بمسألة الأرض والتخطيط الاقتصادي ولا تنتهي بالرياضة والفن والشباب.

الجناح السياسي:

قد يتذرع البعض بتشكيلات “المجلس الوطني” و”الائتلاف السوري” كبرهان على امتلاك “الثورة” السورية جناحاً سياسياً. غير أن ذلك وهم، فلا المجلس ولا الائتلاف ولا حتى “هيئة التنسيق” جناح سياسي حقيقي. مفهوم الجناح السياسي مختلف أشد الاختلاف عن طبيعة عمل هذه التنظيمات.

إن الجناح السياسي يكون في الداخل. عمله أن يستثمر إلى أقصى حد هامش الحرية الذي يتيحه النظام، دون خوف أو وجل. وهو يعمل في كل المؤسسات الرسمية والشعبية؛ كمجلس الشعب، والوزارات، والمؤسسات، والاتحادات، والنقابات المهنية، والقضاء، والمؤسسات التعليمية، والهيئات الأهلية، وإن أمكن في الجيش والأمن، وصولاً إلى قطاعات قد تبدو هامشية كالبيئة والرياضة مثلاً.

في كل هذه القطاعات ينشط الجناح السياسي لفضح عمل النظام وآليته. وليس من بأس في أن يزج بهم في السجن، فحرية الشعب التي يعلنون أنهم يناضلون في سبيلها أسمى وأعلى من ذواتهم. بالعكس فإن الجناح السياسي يستخدم السجن والمحاكمة كوسيلة لفضح النظام أكثر فأكثر. وإن المناضلين الحقيقيين الصلبين يستخدمون قاعة المحكمة لتقديم دفاع سياسي عن القضية، وليس دفاعاً شخصياً لتبرير فعلتهم أو نفيها عنهم. اقرؤوا سير حياة “نيلسون مانديلا” و”باتريس لومومبا” و”أنطون سعادة” و”سمير القنطار”.

المجلس والائتلاف لا يعملان شيئاً من هذا. إن واجبهما بالأحرى هو التنسيق مع القوى الدولية التي لها مصلحة في اسقاط النظام السوري. وهذا، في علم السياسة، يجعلها أشبه بالبعثات الدبلوماسية ذات التفويض العالي، ولكنها بالتأكيد ليست جناحاً سياسياً.

“رياض حجاب” فرَّ خارج البلد دون أن يوجه عبارة منتقدة واحدة، و”مناف طلاس” فرَّ دون أن تكون لديه جرأة اظهار رأيه علناً أو تقديم استقالته رسمياً قبل الفرار، وكذلك الحال بالنسبة لأعضاء مجلس الشعب الهاربين، لم يحاولوا مجرد محاولة أن يقولوا رأيهم علناً في المجلس ويستفيدوا من هامش الحرية، أو ليفضحوا النظام على الأقل إن لم يعطهم هذا الهامش. وبالنهاية كلهم أفراد، ولا تمتلك “الثورة” جناحاً سياسياً، وليس لها إلا جناح عسكري وتنظيمات استخباراتية، وهذا كل شيء.

في تركيا لدى الحركة الكردية جناح سياسي يمتلك إرثاً غير قليل من العمل السياسي الناجح، وفي كثير من المواقع أربك النظام بأكثر مما أربكته الفصائل المقاتلة. فهم دخلوا الانتخابات العامة أول مرة عام 1994، ضمن اتفاق مع حزب الشعب الجمهوري، ثم استقالوا عنه وشكلوا كتلتهم المستقلة. ولا زلت أذكر مشهد القسم حتى الآن، إذ رفضوا أداء القسم باللغة التركية، وطالبوا بأدائه بالكردية، مما أدى لانفعال الأعضاء الأتراك في المجلس وحدوث مناوشات. وأسقطت الحصانة الدبلوماسية عن النائبة الكردية “ليلى زانا” وعدد من رفاقها وأودعت السجن، وبقيت فيه حتى عام 2004. وهناك مناضلون سياسيون أنقذهم الحزب بوضعهم في قوائمه الانتخابية، وخرجوا من السجن بعد نيلهم الحصانة. ولكن في الدورة التالية لم ينجح هذا التكتيك، فالحكومة اعتمدت مطالعة قانونية تبقي وفقها السجناء معتقلين رغم نجاحهم في الانتخابات العامة، خوفاً من انقاذ “أوجلان” من السجن بهذه الطريقة. والحرب سجال.

شكل حزب العمال فيما بعد حزباً مرخصاً لخوض النضال السياسي يدخل الانتخابات بصيغ عديدة للالتفاف على النصوص القانونية الموضوعة لإعاقة تمثيله برلمانياً، وأغلقته الحكومة، ثم شكل حزباً آخر فأغلقته، ثم شكل حزباً آخر فأغلقته، ثم شكل حزباً آخر يهدده “أردوغان” بالإغلاق بين الفينة والأخرى. قارنوا هذه القتالية مع  أعضاء مجلس الشعب الفارين من سورية.

التسليح:

يوماً بعد يوم تزداد المعلومات والمعطيات عن طبيعة تسليح ميليشيات الجيش الحر، فبعد أن بدأت ببنادق فردية، أصبح لديها سيارات دوشكا، ومضادات طيران، وصواريخ منها محلي الصنع ومنها المستورد، وقذائف مضادة للدروع، وصولاً للشائعات عن بدء امتلاكها أسلحة كيميائية يثبتها مقطع الفديو المصور في تركيا، وليس انتهاءً بحصولها على المعلومات الاستخباراتية وصور الأقمار الصناعية من دول صديقة لها.

يبدو من الغريب أن السلاح الرئيسي لحزب العمال الكردستاني كان وما يزال هو البندقية الروسية “كلاشنكوف”، إضافة إلى قليل من رشاشات الـ”بي كي سي” وقواذف الـ”أر بي جي”. وأوردت وسائل الإعلام مؤخراً امتلاكه مضادات طيران بدائية صنعها بنفسه في ورشه في معسكراته بجبال “قنديل” شمال العراق. وعدد هذه المضادات متواضع لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة. وليس لديه مضادات حديثة للمدرعات. وأهم وسائل نقله هي البغال لا سيارات الدوشكا.

رغم ذلك فها هو يطوي السنة الثلاثين من عمر انتفاضته، دون أن يتمكن الجيش التركي من قمعها. في حين أن الجيش السوري الحر دوَّخ خلال سنتين أنصاره قبل خصومه لكثرة ما انسحب “تكتيكياً” من المواقع التي استولى عليها. فهل أن الجيش السوري أمتن من نظيره التركي، أم أن حزب العمال بتسليحه المتواضع أصلب عوداً؟ يمكن لي أن أجيب من موقع من لديه مقدار من الاطلاع على كلا الجانبين أن الاحتمالين معاً لهما نصيب من الصحة.

حرب عصابات أم ماذا؟

رغم أن الخطاب الرسمي لـ”الثورة” السورية يتحدث أحياناً عن اتباع ميليشياتها أساليب حرب العصابات، غير أن ذلك ليس دقيقاً، ففي حرب العصابات لا يصر التنظيم المتمرد على تحقيق سيطرة فعلية مباشرة على قطاعات واسعة ليس من الجرود والقفار فحسب بل من المدن أيضاً، وحتى الكبرى منها. وخاصة إذا كان عمره لا يتجاوز العام الواحد. وكيف يستقيم مبدأ حرب العصابات مع حديث “الثوار” عن السيطرة على 70% من الأراضي السورية.

كذلك ليس تكتيكه تكتيك حرب نظامية، ولو كان كذلك لوجب أن يعمل على ترسيخ “النظام الثوري” في الأراضي التي يسيطر عليها. ولكن هيهات، فلا نظام ولا مؤسسات ولا أجهزة؛ ميليشيات وتنظيمات استخباراتية ولا شيء خلا ذلك.

في المنطقة الكردية في تركيا لا تسعى المجموعات المسلحة المتمردة للسيطرة التامة وطرد القوات النظامية من مناطقها. إنها تنسحب إلى الجبال النائية تهاجم منها المخافر الحدودية والوحدات المهاجمة للجيش التركي، ثم تنكفأ في المغاور والأوكار عندما تتعرض للقصف الجوي والمدفعي. ويستمر هذا السجال لسنوات طويلة.

في حرب العصابات لا تتمسك القوة المتمردة بالجغرافيا. المهم بالنسبة لها هو ارهاقها الجيش النظامي وليس السيطرة السريعة. وبتوافر عوامل بشرية وعسكرية وسياسية معينة يتم الانتقال تدريجياً من حرب العصابات إلى الحرب النظامية؛ حيث تكون القوة المتمردة قد باتت قادرة على احكام السيطرة على بقعة جغرافية ترى أنها قادرة على حمايتها، وتتمسك عندها بها، ولا تنسحب منها “تكتيكياً” كل بضعة أيام.

وفي بعض المناطق في جنوب شرق تركيا أصبحت بعض البقاع تحت السيطرة المباشرة لحزب العمال. وإذا كان “أردوغان” قد التقط صورة في جبل في مدينة “شمدينلي”، عام 2009، فإن القيادي الكردي “مراد قره يلان” تحداه أن يعيد التوجه لنفس المكان ويلتقط نفس الصورة، معلناً أن المنطقة باتت تحت سيطرة قوى حزبه.

أما في سورية، فبعد فترة وجيزة من بدء الأحداث، ودونما فترة تحضيرية لاستكشاف قدرات الخصم على أقل تقدير، رأت ميليشيات الحر أنها تستطيع السيطرة على مناطق كبيرة وتحارب منها حرباً نظامية. ورأينا ما أصابها من ذل وهوان بعد توجه الرئيس الأسد إلى “بابا عمرو”.

إن تكتيك ميليشيات الحر ليس حرب عصابات ولا حرباً نظامية. إنه تكتيك جديد يقوم على الاختراقات السريعة والحادة، مع ضخ إعلامي مكثف، وأعمال دموية مدوية بوحشيتها.. ثم انسحاب “تكتيكي” يليه بكاء وعويل.

الخروج إلى الجبال أم البقاء في المدينة:

يعرف في جنوب شرق تركيا أن من سيعلن التمرد والانضمام لميليشيات الكردستاني يعبر عن ذلك بعبارة “الخروج إلى الجبال”. وهو لا يتحصن في مدينته او قريته أو حيه.

أليس حزب العمال الكردستاني قادراً على نقل المواجهات إلى مدينة “ديار بكر” وبقية المدن الكردية الكبرى؟

إنه ليس قادراً على هذا فحسب، بل هو قادر على نقل المواجهات إلى أحياء معينة في كبرى المدن التركية كـ”اسطنبول” و”أنقرة” و”أضنة”. وقد سبق أن فرغت الشرطة التركية مقارها ومخافرها في الأحياء الكردية في هذه المدن مراراً خوفاً من الغضب الشعبي، لكنها عادت في كل مرة دون أن يمسها أذى. فلم؟

يعلم الأكراد جيداً أن تصرفاً كهذا يؤدي إلى ايذاء مواطنيهم الذين سيرزحون تحت وطأة سياسة انتقامية قاسية تستهدفهم في نفوسهم وفي أموالهم. ولذا فمقاتلو الحزب يحيدون المواطن العادي قدر الامكان، وينسحبون إلى الجبال والبراري، ومن هناك يتصادمون مع الجيش صداماً أقل ما يقال فيه أنه مشرف؛ إذ لا أزقة يحتمون فيها، ولا حاضنة شعبية يتمترسون وسطها، ولا مواطنين عزل يستخدمونهم دشماً وسواتر.

أما ميليشات الحر فليس لديها حسابات كهذه، وليست مستعدة أبداً لتجنيب المواطنين نيران حربها. وحتى الآن لم نعلم عن ميليشيا واحدة منها قد امتلكت الرجولة والشرف العسكري الكافيين لمواجهة الجيش في الجبال والسهول وليس المناطق المأهولة.

سومر سلطان | عربي برس

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock