مقالات وآراء

حكاية الـ”كي جي بي” والتجسس على المسلمين.. الدور العثماني الجديد .. بقلم أشرف الصباغ

لقد جاء حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي في تركيا على تراث ليس الإمبراطورية العثمانية، التي احتلت دولا كثيرة وعاثت فسادا في الشرق والغرب وارتكبت مذابح الأرمن واليونانيين والبلغار وغيرها من الجرائم التاريخية، بل على التراث الذي دشنه مصطفى كمال أتاتورك بعد القطيعة التاريخية مع الماضي العثماني المظلم. وتطورت تركيا ما بعد الرجل المريض، الذي وزعت تركته، كدولة علمانية ووفقا لدستور علماني. وجاء حزب العدالة والتنمية منذ 10 سنوات ليقود دولة علمانية وفقا لخريطة واضحة للعسكر فيها نصيب كبير. وخلال 10 سنوات تمكن التيار الإسلامي المتوافق مع حلف الناتو وعضوه الأمين في المنطقة من تغيير معادلة العسكر نسبيا لصالحه. وليس من المدهش هنا أن يكون التعاون بين تركيا ما قبل العدالة والتنمية وما بعده هي الصديق الصدوق لإسرائيل والدولة الناشطة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وأمنيا معها.

كي جي بي

بعض الكتاب يفبركون الأمور كما يرتأون وكما يريدون لكلامهم أن يستقر. ولكن خلط الأوراق من أجل إلقاء تهم العمالة لدول أخرى والتجسس لصالح أجهزة غير موجودة أصلا كانت في دول لم تعد أيضا موجودة، أمور كلها تثير الشفقة قبل الدهشة. خلاصة القول، المشروع الذي يجهز الآن للمنطقة العربية ليس بعيدا أبدا عن تركيا. ولنراجع تاريخ حركة النهضة في تونس وعلاقات قياداتها بحزب العدالة والتنمية في تركيا، وهذا ما ينطبق أيضا على التنظيم الدولي للإخوان المسلمين. ولم يكن دور أنقرة في غزة – حماس وقضية السفينة التركية والخلافات التركية – الإسرائيلية مجرد أحداث عابرة، بل خطوات محسوبة جيدا، ويمكن استثمارها على نطاقات إقليمية واسعة.

هذا الحديث يأتي على خلفية ما يكتبه بعض منظري تيارات الإسلام السياسي حاليا في العديد من الدول العربية والغربية للمزيد من خلط الأوراق وضمن حملة إعلامية منظمة ضد روسيا والصين على وجه الخصوص. ونحن نعلم جميعا أنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بعام واحد انتهى عصر جهاز الـ “كي جي بي” (لجنة أمن الدولة) وظهر جهاز “في إس بي” (هيئة الأمن الفيدرالية). أي أن جهاز “كي جي بي” ذهب مع الدولة السوفيتية وانتهى الأمر. ولكن يبدو أن البعض لا يزال يعيش في مراحل الثمانينيات والتسعينيات، مؤكدا على أن روسيا هي الاتحاد السوفيتي وأن جهاز المخابرات “كي جي بي” لا يزال يحيك المؤامرات!!! ووصل الأمر إلى أن جهاز “كي جي بي” الروسي و”الموساد” الإسرائيلي تآمرا ضد رئيس الوزراء التركي وزعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي وراعي حلف الناتو في المنطقة السيد رجب طيب أردوغان، ووضعا أجهزة تنصت في بيته ومكتبه. هذا الكلام بثته قناة “دي” التركية وتناقله البعض في مصر باعتباره حقائق دامغة للإشارة إلى أن التجربة الإسلامية في تركيا تتعرض لمؤامرات الخارج والداخل. وأن عملاء روسيا وإسرائيل يتعاونون مع ما يسمونه في تركيا بالدولة العميقة تارة وبالدولة الخفية تارة أخرى.

وعلى الرغم من أن سياق المقال لا ينحو إلى الهزل، إلا أن بعض التفاصيل قد تساعدنا على فهم كيفية إدارة الحملات الإعلامية والاستجابة لها أيضا. خلال مليونيات ميدان التحرير عام 2012 كانت مجموعة تصوير قناة “روسيا اليوم” تقوم بإجراء بعض المقابلات السريعة في الميدان مباشرة. وأثناء حديث الضيف تدخل بعض الواقفين، فقطعوا الحوار. سأل أحدهم عن هوية القناة. فرد المراسل: “روسيا اليوم”. وعلى الفور جاء الرد بالعامية المصرية: “أيوه، روسيا اللي بتحارب المسلمين في أفغانستان”!!! فرد المراسل: “روسيا ليست في أفغانستان ولم تتدخل في شؤونها، هناك الآن أمريكا والناتو”. رد آخر: “لا. بتحاربنا في الشيشان”. فسأله المراسل بالعامية المصرية: “هو إنت كنت في الشيشان؟”. فقال: “لا. بس الجرايد كلها بتكتب، وبنشوف في التلفزيون”. سأله المراسل: “إنت عارف الشيشان دي، فين؟”. فرد ثالث: “لا. الكي جي بي هو اللي بيقتل المسلمين في كوسوفو”.

خلاصة القول، استمر الحوار على هذا المنوال ما يقرب من 15 دقيقة، وتزايد عدد الناس حول مجموعة التصوير، وأصبح الأمر ينبئ باحتمال خطر العنف. ولم يكن هناك مفر من تحويل الأمر كله إلى مزاح وتنكيت. وبالفعل تمكن المراسل من ذلك حتى انفض المتجمهرون وأنجز عمله. لم تكن هناك أي دهشة. فهذا هو واقع الحال في ظل وجود كتاب وصحفيين كبار ورائجين جدا في وسائل الإعلام ما زالوا يكتبون عن مؤامرات الـ “كي جي بي” ولا يعرفون أين تقع الشيشان أو كوسوفو، بل وعن علاقة ميدان التحرير بالكي جي بي!!

إن حزب العدالة والتنمية وزعيمه حارس مصالح الناتو في المنطقة لم يخرج عن أطر التوصيفات الكلاسيكية. فتارة هناك مؤامرة من العسكر. وتارة، هناك محاولة انقلاب من العسكر. وتارة ثالثة، هناك محاولات تجسس من دولة ما خفية على الحزب وقياداته لضرب التجربة الإسلامية ومعاداة كل ما هو إسلامي في تركيا التي يريد البعض إعادتها قسرا إلى جلباب الإمبراطورية العثمانية الملطخ بالعار والدماء. ولكن أن تتوازى الأحداث التركية مع ما يجري في مصر، فهذا يحيلنا إلى قضية أخطر بكثير مما نتصور. فالشعب المصري يتآمر على الإخوان المسلمين، والقوى السياسية تتآمر على الإخوان المسلمين، والجيش يتآمر على الإخوان المسلمين، والأجهزة الأمنية تتآمر على الإخوان المسلمين.. وقد نسمع قريبا أن إسرائيل واليهود المصريين فيها وخارجها يتآمرون على الإخوان المسلمين! ولا نستبعد في هذا السياق أن يهب جهاز “كي جي بي” من الاتحاد السوفيتي غير الموجود أصلا ليتآمر على الإخوان المسلمين..

لقد جاء حزب العدالة والتنمية الإسلامي على تراث مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة التي أصبحت عضوا في حلف الناتو ودولة قوية اقتصاديا وسياسيا وجيوسياسيا وأمنيا، ولديها علاقات متينة مع كل دول العالم وعلى رأسها إسرائيل. ولكن على أي تراث جاء الإخوان المسلمون في مصر؟!! ما يعني أن تصفية الجيش والأجهزة الأمنية واتهام الشعب والقوى السياسية بالتآمر ومن ثم تصفية من يريدون تصفيته لا يعني إلا شيئا واحدا، وواحدا فقط، ألا وهو إقامة نظام ديني فاشي لا يمكن حتى تصنيفه ضمن التيارات الدينية اليمينية.

الكتاب الذين يعيشون في عصر “كي جي بي” يعتمدون على وسائل الإعلام والقنوات التركية في فبركة الأحداث وخلط الأوراق، ثم يشعلون خيالهم للمزيد من خلط الأوراق في مصر. وفي النهاية يؤكدون أنهم لا يمتلكون أدلة أو وثائق. ليكن ذلك. ولكن لا واشنطن ولا أنقرة ولا تل أبيب تريد نسخة أخرى من تركيا في المنطقة، ولن يحدث ذلك في مصر، لأنه ببساطة لا يخدم السيناريو القائم. هناك سيناريوهات أخرى أفغانية وعراقية وصومالية، وربما سيناريوهات إيرانية على النسق السني، وهو ما يتوافق جيدا مع خطط واشنطن والمحور الأورو – أطلسي، ويتوافق أيضا مع طموحات الإخوان المسلمين للبقاء في السلطة أطول فترة ممكنة. وبالتالي فتصفية القوى السياسية والجيش والأجهزة الأمنية لا تقود إلا إلى حرس ثوري ووزارات أمنية على نسق القرن الرابع الهجري. وفي كل الأحوال لن تتمكن واشنطن وأنقرة وتل أبيب وقطر من إقامة نموذج إيراني سني في مصر. وذلك يعود ببساطة إلى أن الخميني جاء على دولة قوية ومتقدمة، وليس على دولة تم تجريفها طوال 30 عاما! لا أحد يعرف هوية النظام في مصر الآن. الإطار فقط يعلن نفسه في شكل “حكم تيارات الإسلام السياسي”، أو “الإسلام الديمقراطي الجديد” وفقا للتعبير الأمريكي، أو “الفاشية الدينية”، أو “حكم تيارات اليمين الديني المتطرف” وفقا للمراقبين المصريين.

د. أشرف الصباغ

(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock