تحقيقات وتقارير

النفط السوري .. سرقة وتكرير بطرق بدائية من قبل لصوص “الثورة” تسبب بأمراض جلدية ويهدد بكارثة بيئية

غمامة سوداء متلبدة، وأعمدة دخان تتصاعد. هنا الشرق، حيث كان يوصف يوماً بأنه «خزان القمح السوري»، لا سنابل يداعبها النسيم، ولا فلاح متعباً بمنجل، هي أرض باتت متشققة، يجوبها عمال تعلو جبينهم لطخات سوداء. لا داعي للسؤال عن السبب، فالذهب الأسود أصبح «شغل المنطقة الشاغل»، بعدما خسرت الحكومة آبار النفط، وسيطرت عليها مجموعة قوى معارضة، تحوّل عناصرها، وسكان القرى القريبة منها إلى «تجار نفط» و«عمال استخراج وتكرير».

تتركز معظم حقول النفط السورية في المنطقة الشرقية، والشمالية الشرقية (منطقة الجزيرة)، وتتوزع على ثلاث محافظات هي الحسكة (تضم خمسة حقول)، دير الزور (6 حقول)، والرقة (6 حقول)، وجميعها باتت خارج سيطرة الحكومة، باستثناء حقل «العمر» النفطي في الريف الغربي الجنوبي لدير الزور، بعدما تمكن الجيش السوري من استعادة السيطرة عليه في وقت لاحق من العام الحالي، في حين تتقاسم جماعات متشددة متصارعة في ما بينها ووحدات الحماية الكردية السيطرة على الحقول، التي يخضع أكبرها لسيطرة الوحدات الكردية (حقول الرميلان شرق محافظة الحسكة).

سرقة-وتكرير-النفط-السوري-بطرق-بدائية-من-قبل-لصوص-الثورة

وفي حين تشير التقديرات الرسمية السورية إلى تراجع إنتاج النفط من 380 ألف برميل إلى 20 ألف برميل يومياً فقط، تظهر المعطيات على الأرض حقائق مخالفة، فـ«استخراج وتكرير وإنتاج النفط ما زال مستمراً، وإن بكميات أقل، إلا أنه لا يذهب إلى خزينة الحكومة»، يقول مصدر متابع لملف النفط في سوريا.

ويضيف «وزارة النفط أعلنت أنها تنتج نحو 20 ألف برميل يومياً، وهو رقم حقيقي، حيث تنتج هذه الكمية في الحقول الوحيدة التي تسيطر عليها (حقول العمر)، في حين تتكفل الفصائل المتشددة، ووحدات الحماية الكردية باستخراج وتكرير النفط وبيعه لحسابها الخاص”.

ويشرح «حقول الرميلان كانت تنتج يومياً نحو 170 ألف برميل، وهي الآن خارج سيطرة الحكومة، وتديرها الوحدات الكردية التي تعمل على استخراج النفط وبيع بعضه، وتكرير البعض الآخر بواسطة آلات تكرير بدائية”.

ويضيف «الحقول الأخرى تتنازع السيطرة عليها فصائل متشددة، وبعضها خاضع لسيطرة فصائل مسلحة صغيرة محلية، تقوم جميعها باستخراج وبيع النفط الخام عن طريق تهريبه إلى تركيا، أو حتى بيعه للحكومة عن طريق وسطاء، وتكرير بعضه وفق أساليب تكرير بدائية، حيث تبيع مشتقاته كالمازوت والبنزين للمواطنين، أو للتجار”.

ويرى المصدر أن ملف النفط السوري يفوق خطره الجانب الاقتصادي المتعلق بسرقة ثروات داخلية، وإخراج هذا القطاع المهم من الميزانية السورية. ويقول إن «سرقة النفط تسببت بإخراج هذا القطاع من الميزانية، وكلفت الحكومة عبئاً إضافياً يتمثل بعملية شراء المشتقات النفطية لتلبية الطلب المحلي على هذه السلع، علماً أن المحروقات تبيعها الحكومة بأسعار مدعومة، تقدر بنصف تكلفة شرائها، من إيران تارة ومن بعض دول أميركا اللاتينية تارة أخرى (فنزويلا تعتبر المزود الأهم للمشتقات النفطية في سوريا). إلا أن ثمة أخطاراً أخرى تؤدي إلى نتائج كارثية على الاقتصاد السوري نفسه، وعلى سوريا بشكل عام”.

ويشرح المصدر، إن «عملية استخراج النفط ليست عملية سهلة، فمجرد استخراجه من باطن الأرض سيؤدي إلى تلوث كبير في المنطقة التي يتم استخراجه منها، إن لم يتم اتخاذ الاحتياطات واستخدام وسائل حماية ووقاية، وهو أمر لا يتم أخذه بعين الاعتبار أثناء استخراج النفط، سواء من قبل الوحدات الكردية أو حتى الفصائل المتشددة، ما يعني أن خطر التلوث، بجميع أنواعه (حتى الإشعاعي) قد أصاب مناطق استخراج النفط، والمناطق المحيطة».

ويضيف «تمتلك الوحدات الكردية عشرات مصافي النفط البدائية، التي تشغلها لإنتاج بعض المشتقات النفطية، كالمازوت والبنزين، والذي يتم إنتاجه بجودة منخفضة جداً. كما تمتلك الفصائل المتشددة، والفصائل المحلية، وبعض المستثمرين نحو الفي مصفاة بدائية، جميعها تعمل على تكرير النفط واستخراج مشتقات ذات جودة متدنية، ضمن شروط إنتاج بدائية لا تراعي المعايير البيئية، حيث تعمل هذه المصافي على إطلاق الدخان، والأبخرة الناتجة عن عملية تكرير النفط في الهواء، ما يعني زيادة عملية التلوث، وهو ما تسبب بتشكل غمامة سوداء فوق المنطقة الشرقية من سوريا، ما سيتسبب بنتائج كارثية، سواء على سكان هذه المناطق، أو على مصادر المياه فيها، أو على الأراضي الزراعية، التي سيصيبها التصحر لا محال».

بدوره، يشدد المهندس البتروكيميائي صلاح الجاني، خلال شرحه للأخطار الناجمة عن عملية استخراج النفط من دون اتباع الوسائل الوقائية، وعملية تكريره البدائية، على أن الأخطار بمجملها «كارثية». ويقول «تهدف تكنولوجيا صناعة استخراج النفط وتكريره إلى تحقيق الدارة المغلقة، أي الفصل الكامل للهيدروكاربون في الدارة عن الوسط المحيط، بعبارة أوضح عدم المساس بالبيئة، أي التربة والماء والهواء. يعزز هذا الهدف التقدم الحاصل في علم البيئة، وهو علم استثمار الموارد الطبيعية والبشرية بأعلى إنتاجية وأقل تأثير على الإنسان والممتلكات والبيئة عموماً».
ويتابع «متى خرج الهيدروكاربون من دارته (آبار أو أنابيب أو خزانات)، يحصل التغيّر الشديد في مواصفات مكونات البيئة، فالتربة لن تعود ولمدة طويلة صالحة للزراعة، والمياه الجوفية لن تعود مقبولة، وسيتم تهديد المياه السطحية والبحار، أما الهواء فيصبح باختصار ساماً. كما أن المياه المرافقة للنفط (عند إنتاجه، ويتوجب فصلها قبل النقل، وتسمى أيضاً بالمياه الطبقية) تحمل من الأملاح ما يهدد الحياة النباتية والمياه السطحية والجوفية كما تحمل من المركبات الطبيعية المشعة تدعى NORM بتركيز غير قابل للإهمال وشدة إشعاع تدوم لسنوات.

بالإضافة إلى أن مخاطر الحريق قائمة في كل لحظة، حتى خلال التشغيل الاعتيادي، فالأعطال لا يمكن منعها بل التخفيف منها إلى حد بعيد، والحريق من ألد أعداء الهيدروكاربون، سائلاً كان أم غازاً».

ويضيف الجاني، لـ«السفير»، «كل هذه المؤثرات يمكن كبحها عبر صناعة الاستخراج والنقل والتكرير والتخزين، حيث يراعى في داراتها الإغلاق المحكم وبمعالجة مخلفاتها لتحييد المؤثرات الضارة بالبيئة. أما إذا لم تكن هناك دارات خاصة بكل متدفق، وخاضعة للتشغيل المنظّم والمراقبة والتفتيش والصيانة، فلن تكون البيئة في مأمن من الإصابة بالتلوث الذي قد يصل إلى مرتبة الكارثة».

ويرى المهندس البتروكيميائي أنه في الحقول السورية التي خرجت عن سيطرة السلطة السورية، وبانتشار عمليات سرقة النفط لبيعه إلى تركيا، وحيث أن الفاعلين ليس لديهم الكادر ولا الوسائل الفنية اللازمة (بل يفكّكون ما يمكن تفكيكه من المعدات لبيعه إلى تركيا) فإن الوضع الحالي أقل ما يُقال فيه بأنه كارثي، من حيث نقاط عدة، أبرزها:

1- نظراً إلى ضعف صيانة تغليف البئر، ستتلوّث المياه الجوفية بالنفط والغاز المرافق خلال عملية رفع النفط من البئر، حيث ان مليليتر واحد من الهيدروكاربون يمكن أن تفسد كميات كبيرة من المياه.

2- بوصول السائل النفطي (نفط ومياه مرافقة له) إلى السطح، وحيث الدارة تصبح مفتوحة ينفصل الغاز المرافق للسائل، وهو غازات هايدروكاربونية سامة وقابلة للانفجار، إضافة لغاز سلفيد الهيدروجين المرافق تواجده وبنسب متفاوتة للنفط (يمكن تحسسه عند نصف جزء حجمي منه في مليون جزء حجمي من الهواء 0.5 PPM )، وهو ينفرد بخواص خطيرة من حيث التسمم، فعند 100 PPM يتسمم عصب الشم ولن يمكن تحسسه بعد ذلك مهما ارتفع تركيزه، ليصبح خطر الموت وارداً عند 500 PPM، كما أن سلفيد الهيدروجين قابل للانفجار.

3- تلوث التربة بالهيدروكربون وأملاح المياه المرافقة للنفط، ما يجعل التربة بحاجة لإعادة تأهيل بعمليات مكلفة جداً. وكانت مثل هذه الأعمال قائمة قبل الأحداث (معالجة التربة التي تلوثت سابقاً بالمياه المرافقة قبل تنفيذ برامج حقن تلك المياه في آبار خاصة والاستفادة منها في عمليات الإنتاج المعزز للنفط) وبتكلفة وصلت إلى مئات ملايين الليرات السورية.

4- أما عن عمليات تقطير النفط بالوسائل البدائية، فهي تحمل مخاطر الانفجار والحريق وقد حصلت وتحصل حوادث مروّعة، نظراً لتجاور مصادر الاشتعال للنفط والغاز المنفصل عنه، ونظراً للجهل بخواص المشتقات النفطية وطرق التعامل معها.

5- وبالتعامل مع النفط في مناطق مفتوحة فإن الغازات المنفصلة عنه قبل التقطير وخلالها، تصل للمناطق المجاورة وبحسب الكميات المقطرة، وهنا نشير إلى أنه حتى ما يُسمى بالمصافي المتنقلة (وهي مخصصة لتقطير النفط)، فإنها تصدر كميات كبيرة من الغازات الهيدروكربونية وبتركيز خطير، إذا تذكرنا أن بعض المشتقات النفطية لا يسمح بتواجد أبخرتها في جو منطقة العمل بأكثر من بضعة أجزاء PPM بينما تتواجد بالمئات منها. وهكذا تعاني التجمعات السكانية من مخاطر حقيقية حالياً بفعل التعرض للغازات البترولية التي قد يصل تأثير بعضها إلى مراحل لا يمكن التخلص منها.

6- أماكن تجمّع النفط أو المياه الطبقية تتحوّل مع الزمن إلى مصدر إشعاعات (ألفا بيتا وغاما) من غير المسموح التعرض له. وكانت الحكومة قد قامت بإعداد خرائط إشعاعية تم رسمها لكل مواقع إنتاج النفط وتخزينه، من أجل متابعة عمليات الوقاية للعاملين وتأهيل التربة الملوثة لتعود صالحة للزراعة. وفي هذه الأثناء يجري التعرض لهذه المؤثرات دونما رقابة، وكل المواقع بحاجة اليوم لإعادة وضع خرائط إشعاعية جديدة، وهذه تحتاج لأعمال مكلفة.

ويضيف الجاني أنه «وبالنظر إلى كميات النفط المسروقة (لا توجد إحصائية دقيقة لتلك الكميات) فإن كميات المياه المرافقة المطروحة على سطح الأرض (ونسبتها تتراوح من واحد إلى 90 في المئة من السائل المنتج) وأحجام الغازات المنطلقة في الجو وبدائية عمليات النقل والتقطير والحوادث التي حصلت حتى الآن، يمكن القول إن اعتداءً قوياً يحصل على البيئة السورية»، مشدداً على أن «إصلاح البيئة أصبح بجزء كبير منه صعباً للغاية إن لم يكن مستحيلاً، عدا الخسائر الاقتصادية الهائلة التي تنعكس على البيئة أيضاً بشكل غير مباشر».

وتشير مصادر محلية إلى بدء انتشار مجموعة من الأمراض في مناطق عدة في ريفي الحسكة ودير الزور، خصوصاً في المناطق القريبة من حقول استخراج النفط، ومصافي تكريره البدائية.

وتوضح أن أمراضاً جلدية عدة بدأت بالظهور في المنطقة (التهابات جلدية، وسرطانات جلدية)، كما تم تسجيل حالات ولادات عدة لأطفال يعانون من تشوهات خلقية، آخرها في مدينة الشحيل في ريف دير الزور، في وقت خرجت فيه مساحات زراعية شاسعة عن العمل (القمح خاصة)، سواء بسبب تحول المزارعين إلى أعمال أخرى بسبب ارتفاع تكاليف إنتاجها، أو بسبب القتال الذي حال دون أعمال الزراعة، أو التلوث الذي تسببت به عمليات استخراج النفط وتكريرها، والذي يبدو أنه الأكثر تأثيراً، نظراً لتأثيره المستقبلي في عملية الإنتاج الزراعي، في وقت تشير فيه تقديرات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) إلى أن إنتاج القمح في سوريا انخفض في العام الحالي على «نحو خطير»، ما تسبب بحالة من انعدام الأمن الغذائي، يبدو أنها ستطول.

سيريان تلغراف | “السفير” اللبنانية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock